سنبدأ رحلتنا معنا انطلاقاً من كوننا المرئي الذي نعيش فيه ومن المكان والزمان الذين نعرفهما ونشعر بهما واللذين دمجهما آينشتين في نظريته النسبية العامة والخاصة في نسيج واحد سماه الزمكان. سنسافر بسرعة تقرب من سرعة الضوء لأن السيد آينشتين يمنعنا من السفر بهذه السرعة فلا يحق لأي كيان مادي أن يتنقل بسرعة الضوء عدا الضوء نفسه بالطبع وذلك لأن آينشتين يحذرنا بأننا سنختفي من الوجود ونصبح صفراً. وسنطبق على أنفسنا قوانين الطبيعية الجوهرية الأربعة كما هي موجودة في الكون المرئي، الجاذبية أو الثقالة والكهرومنغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة، ونتقيد بمفاهيم الزمان الأرضي والمكان الأرضي ، على الأقل في الجزء الأول من الرحلة لأن هناك أزمنة أخرى وأماكان وفضاءات أخرى في الكون المرئي وخارجه سنطلع عليها لاحقاً. سنصادف في طريقنا ، إلى جانب المجرات والسدم والآماسات أو الحشود والعناقيد المجرية والنجوم والكواكب والأقمار والسحب والغيوم والغازات الكونية، مكون كوني آخر غريب عثر عليه العلماء من خلال بحثهم ورصدهم وقياساتهم الرياضية في العقود الأخيرة وتأكدوا من وجوده في الكون المرئي على نحو قطعي رغم كونه غير مرئي ويتعذر رؤيته بأجهزتنا الحالية ، وهو عبارة عن مادة من نوع آخر يختلف عما نعرفه عن المادة الطبيعية الكلاىسيكية الملموسة والتي وصفت بأنها " مادة سوداء أو مظلمة" لأنه يتعذر مشاهدتها ورصدها لكنها منتشرة في كل مكان وتملأ الكون المرئي بنسبة 95% من مكوناته وهي من الكثافة بمكان بحيث أنها تستطيع أن تتحكم بمصير الكون ومستقبله وتتركز جهود العلماء اليوم على كشف ماهية وسر هذه المادة الغريبة التي كانت مجهولة لعقود طويلة مما سيسمح لهم بفتح آفاق جديدة في حال نجاحهم في تشخيصها من أجل فهم أفضل وأكثر دقة علمياً للواقع الكوني، وهي غير المادة المضادة التي كانت موجود بنفس القدر والكمية تقريباً مع المادة الطبيعية لحظة ولادة الكون لكنها اختفت إثر عمليات الفناء المتبادل بين المادة والمادة المضادة. وسوف نقترب ونراقب عن كثب ولكن بحذر شديد كيانات كونية غريبة ومخيفة جداً ، كان العلماء يعرفون وجودها في زمن إسحق نيوتن وكانوا يسمونها آنذاك بالنجوم المعتمة أو الداكنة لكونها تمارس تأثيراً ثقالياً وجاذبية مهولة من القوة بمكان بحيث تستطيع أن تمنع كل شيء من الإفلات من قبضتها بما في ذلك الضوء ، ولكن في الآونة الأخيرة ، وبفضل التلسكوبات الراديوية والتقدم التكنولوجي والعلمي النظري والعملي ووجود علماء فطاحل من أمثال ستيفن هوكينغ Stephen Hawking و ويلير Wheeler تخصصوا في هذه الأجسام الكونية التي أطلقوا عليها تسمية " الثقوب السوداء " انتقلوا بها من موضع الافتراض المتخيل إلى الواقع الفعلي المدهش والمثير للقلق بسبب قدرتها على تشويه المكان والزمان أو النسيج الزمكاني وما تخلقه من مفارقات علمية . فكل شيء يبدو متطرفاً في الحدود القصوى داخل الثقوب السوداء ، بل و يوشوش البعض بحذر وخجل في الوقت الحاضر أنها قد تكون بمثابة أبواب سرية نحو أكوان أخرى . سنتعرف على الكتلة لكننا سنتساءل ماهي الكتلة ومن أين جاءت وكيف تنتقل ولماذا توجد عند بعض المواد وتنعدم في مواد أخرى وارتباطها ببوزونات الرب أو بوزونات هيغز التي تم اكتشافها علمياً على نحو قاطع في 4 تموز عام 2012 بعد أن كانت مجرد فرضية نظرية اقترحها العالم هيغز أمام سخرية زملائه قبل نصف قرن من الآن، في حين استقبل الوسط العلمي اكتشافها وأعدوه بمثابة الإكتشاف العلمي الأهم أو الأكثر أهمية بعد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. فإكتشافها يدعم ويؤكد صحة النموذج المعياري في فيزياء الجسيمات ، وهو الدعامة الأساسية في رؤيتنا المعاصرة للكون المرئي، وتمثل انتصاراً للرهان الذي راهن عليه علماء في معجلات أو مسرعات ومصادمات الجسيمات ، وعلى الأخص مصادم الجسيمات العملاق LHC الواقع على الحدود الفرنسية السويسرية وسنحاول أن نتعرف على دالة ووظيفة هذه البوزونات ومنحها للكتلة لبعض الجسيمات الأولية كما يعتقد الآن . 

كل رحلة مرتبطة حتماً بزمان ومكان ، من لحظة انطلاقها إلى نهايتها. لذلك سنبدأ مرغمين من لحظة ما من الزمن الأرضي ومن نقطة ما من المكان الأرضي نحو الفضاء الخارجي الذي سيكون له زمن آخر ومكان آخر وسنكتشف على طول الرحلة بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر أن هناك زمكان كمومي أو كوانتي في العالم ما دون الذري، وهناك زمكان ماكروسكوبي مرتبط بالموجودات الكبيرة ما فوق الذرية. فالفيزياء المعاصرة سجينة وضع غير مريح فعند دراسة العالم الميكروسكوبي سنكتشف أن القواعد التي تمليها النظرية الكمومية أو الكوانتية الغريبة الأطوار، هي غير تلك التي نألفها في حياتنا اليومية ، لأننا نجد على العكس من ذلك في العالم الماكروسكوبي حيث تهيمن قواعد النظرية النسبية العامة والخاصة لآينشتين. ويحاول العلماء، بما فيهم آينشتين نفسه، منذ عقود طويلة، أن يعثروا على نظرية بديلة موحدة تتمكن من فرض مصالحة وتوافق بين العالمين الميكروسكوبي والماكروسكوبي والتي تعرف اليوم نظرياً بــ " نظرية كل شيء" لكنهم، أي العلماء ، يصطدمون دائماً بعقبات وصعوبات يصعب إن لم نقل يتعذر، تجاوزها وسنتعرف على المرشحين لهذا الدور الذي من شأنه أن يعثر على الكأس المقدسة في العلم وهي نظريات صعبة وغريبة هي أقرب للفانطازيا أو الميتافيزيقيا منها للعلم وأشهرها نظرية الأوتار الفائقة. والحال أن هذه الأخيرة تفرض علينا فرضيات واحتمالات هي الأكثر غرابة في العلم المعاصر لا سيما علم الفيزياء وعلم الكونيات ، إذ إحدى فرضياتها تقول أن كوننا المرئي لا يمثل سوى عنصر بسيط وسط عدد لامتناهي من الأكوان الممكنة الوجود ، وإن هذا التعدد الكوني multivers يتبنى عدة اشكال متباينة أو متشابهة . وإن إحدى تفسيرات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي تنطوي على أن كل حالة كامنة وممكنة لجسيم مادي قابلة لخلق واقع خاص بها. والنظرية م M ، وهي إحدى التنويعات عن نظرية كل شيء، تتوقع وجود أكوان متداخلة ومضغوطة داخل أبعاد فائقة في صغرها أو في كبرها، قد يصل تعدادها إلى أحد عشر بعداً عشرة مكانية وواحد زماني ، ولكن رغم الغرابة والصعوبة الظاهرية لهذه الفرضية عن الأكوان المتعددة إلا أنها تستجيب وتقدم حلول لعدد من الألغاز والثغرات التي توجد في علم الكونيات " الكوسمولوجيا cosmologie المعاصر.وفي رحلتنا في تخوم الكون المرئي سنحاول أن نتعرف على بداياته وعما كان موجوداً قبله ، وسنغوص في مفاهيم الفراغ والخواء الحقيقي والافتراضي ، الواقعي والكمومي أو الكوانتي ، ونتعرف على معنى العدم واللاشيء. فإذا اتفقنا على أن الانفجار العظيم البغ بانغ Big Bang هو البداية المفترضة للكون المرئي ، فهل يحق لنا أن نبحث عما سبقه كحدث كوني أي معرفة ماذا كان يوجد قبله؟ علماُبأن هذه التساؤلات ستضعنا في مواجهة المسائل الوجودية و الفلسفية الكبرى، من قبل كيف يمكن لــ " اللاشيء rien " أن يتحول إلى " شيء ما quelque chose " وكيف يمكن أن نخلق وجوداً من عدم، والحال أن الثورة الكمومية أو الكونتية المعاصرة وما لحقها وتبعها وترتب عليها يضفي معنىً جديداً وفهماً جديداً لمفاهيم كالفراغ والعدم والخواء واللاشيء وبات من الممكن تقديم ملامح أولية لأجوبة علمية لتلك الألغازفحتى الفراغ المطلق هو في الواقع ليس فراغاً تاماً بل مليء بمكونات كمومية أو كوانتية غير مرئية وغير ملموسة وغير قابلة للرصد في الوقت الحاضر. سنصادف في رحلتنا كينونات غريبة كالنيوترينوات les neutrinos العديمة الكتلة أو ذات الكتل الضئيلة وذات الشحنة الكهربائية الحيادية أو عديمة الشحنة. وسوف نلمس أن التراكيب المتنوعة لخصائصها وسماتها تجعلها مضطربة ومتمردة لا يمكن حصرها أو وقفها حرفياً littéralement imparable. لأنها قل ما تتفاعل مع المجالات أو الحقول أو الجسيمات الأخرى ولا شيء يوقف أو يحيد مساراتها عبر الكون المرئي فهناك ترليونات الترليونات منها التي تخترق أجسادنا في كل جزء من مليار من الثانية الأرضية، ولذلك فإن دراسة هذه الجسيمات المراوغة insaisissables، سوف تقودنا لتحقيق طفرات تطورية هائلة في مجال الفيزياء المعاصرة وسوف تجيب على أهم الأسئلة المفتوحة في العلم الحديث. 

كلما تقدمنا في رجلتنا سنشعر أن الزمن لا يمضي كما كنا نتوقع أو نشعر به في بداية رحلتنا. فنحن ندرك أن الزمن يسير باتجاه واحد من الماضي نحو المستقبل، أي أن إدراكنا للزمن غير متماثل asymétrique، وكنا نعتقد أن من المستحيل علينا أن نرجع إلى الوراء إلى الماضي أو نتقدم إلى الأمام إلى المستقبل داخل الزمن كما نفعل داخل المكان حيث يمكننا أن نتقدم أو نتراجع في الحيز المكاني ، والحال أن قوانين الفيزياء لا تمنع ذلك و لا تستبعده البتة. فالذي يبدو لنا غير قابل للانعكاس والارتداد هو في حقيقة الأمر ممكن على الأقل داخل حساباتنا ومعدلاتنا الرياضية وعلينا أن نتجاوز ما سيخلقه ذلك من مفارقات فهل يجب أن نصحح معادلاتنا وهي دقيقة ومثبتة أم علينا أن نغير مفاهيمنا ومداركنا عن الزمن ؟ سنكتشف من خلال رحلتنا ألكونية هذه أن هناك زمن نسبي وزمن مطلق وهناك زمن واقعي وزمن متخيل وهناك زمن بسيط وزمن مركب وإن الزمان هو هيئة أخرى ووجه آخر للمكان ويمكن تحويل الزمان إلى مكان وبالعكس. كما سنتعرف في رحلتنا على هندسة وهيكيلية وتركيبة الكون المرئي وسنرى أن المادة موزعة فيه بطريقة غريبة وغير متوقعة وغير منتظمة فالمجرات تتجمع في آماسات Amas أو حشود مجرية والحشود المجرية تتجمع في عناقيد وحشود فائقة super Amas، وهذه الأخير تمتد على شكل شبكات طولية وعرضية متداخلة على امتداد 300 مليون سنة ضوئية وهناك مناطق هائلة بين الحشود المجرية الفائقة أو الشبكات تبدو فارغة وعندما نرصد الكون المرئي بشساعته المرئية لن نتمكن من رصد هيكيليته وهندسته الحقيقية حتى عندما نغوص في أعماقه وتخومه مما يشكل تحدياً لرسم صورة حقيقية لهيكلية وهندسة الكون المرئي . وكلنا يعرف أن هذا الأخير خاضع لثوابت كونية ثبتتها الفيزياء تعكس معرفتنا وجهلنا لهذا الكون في آن واحد. فهي تشهد على صحة القوانين الفيزيائية التي تدير وتسير الكون المرئي لكن وجودها بهذه القيم المثبتة يثير الكثير من التساؤلات المعلقة فهل هي ناجمة عن قوانين طبيعية أخرى غير معروفة وغير مكتشفة بعد؟ وهل تبنت قيماً محددة على نحو عشوائي وبالصدفة إبان وقوع حدث الانفجار العظيم؟ وهذا ما سوف يرغمنا على البحث عن إجابات في رحلتنا الكونية في أعماق الكون المرئي داخل الزمان والمكان وخارجهما لسبر أغوار التاريخ الكوني والتوسل بقواعد الإبستمولوجيا العلمية والتمعن في النظريات الفيزياء الجوهرية التي اثبتت صلاحيتها في الوقت الحاضر على الأقل. سوف يلفت نظرنا وجود حالات من التماثل والتناظر وأخرى من التماثل والتناظر الفائق Symétrie et supersymétrie، في الأشكال والصيغ الهندسية وفي التكوينات التي تستند عليها الفيزياء المعاصرة والرياضيات المعاصرة والتي توفر لنا الأداة الناجعة لشرح وفهم المكونات الأولية لعدد من النماذج الكونية النظرية وتساعدنا في إقامة الصلة بين مختلف المجالات الرياضياتية فهي الأساس في صياغة العديد من القوانين الفيزيائية التي تفيدنا في شرح وتفسير العديد من مظاهر الكون على كافة المستويات. سوف يتضح لنا إبان الرحلة الكونية أن كل شيء في العلوم الطبيعية يتمحور حول مفهوم التطور والتغيير والفيزياء الفلكية تعتبر جزء من ذلك بالطبع فالكون المرئي واقع في خضم تغيرات دائمية مستمرة ولكن في مراحله اللاحقة لأنه مرة بمرحلة لم يكن فيها وجود لا للمجرات ولا للنجوم فهناك تطور دائم في سياق مراحل تطورية محددة منذ اللحظة صفر إلى اليوم وباتجاه المستقبل البعيد غير المنظور. يتعين علينا ونحن نرحل ونسافر عبر طيات الزمكان الكوني أن نتعرف على التفاعلات الجوهرية القائمة منذ لحظة البدء والولادة بين الجسيمات الأولية التي أعطتنا النموذج المعياري الذي هو مفتاح معرفتنا بفيزياء الجسيمات الأولية physique des particules، والتوغل في ثنايا التطورات النظرية والتجريبية لفيزياء القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين فبفضل النموذج المعياري modèle standard des particules يمكننا أن نفهم ونستوعب تحديات الفيزياء المعاصرة وكيفية معالجتها في المعجلات ومسرعات الجسيمات الموجودة على متن مركبتنا الفضائية أيضاً فضلاً عن وجود العديد منها على الأرض. وسنتيقن بأن كل شيء يتغير ولا يوجد شيء ثابت في الكون المرئي الذي نعيش فيه، فحتى هذا الآخير مآله الاندثار والغياب وعلينا أن نتعرف على كافة المتغيرات الممكنة التي ستطرأ عليه وبأي إيقاع ستحدث فكم هو عمر الكون المرئي المفترض وإلى متى سيستمر على قيد الحياة وهل ستفنى الحياة بفناء الكون المرئي أم يمكننا ككائنات حية الخروج من الكوني المرئي إلى ما وراءه وخارج حدوده بعد أن نصل إلى تخومه في رحلتنا هذه؟ وهل سنلتقي بحيوات وكائنات حية أخرى ذكية وعاقلة ومتطورة علمياً وتكنولوجياً؟ وهل سنكتشف على نحو قطعي النهاية المتوقعة للكون المرئي؟ فهناك عدة سيناريوهات بهذا الصدد سنتعرف عليها تباعاً ، ولكن علينا أن نبدأ من البداية والأصل المفترض أو المثبت ألا وهو حدث الانفجار العظيم انطلاقاً من الفرادة الكونية singularité، ومن مكان أو طول بلانك الذي هو اصغر مكان في الوجود الذي نعرفه بمعاييرنا العلمية اليوم وفي زمن بلانك وهو أصغر وحدة زمنية نعرفها اليوم في الكون المرئي، لكن عالم اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر أشمل وأكبر وأوسع من هذه المفاهيم بكثير.

لقد اضطررنا لتكريس حلقتين تمهيديتين قبل البدء برحلتنا الكونية من الأف إلى الياء وبتفصيل علمي مبسط ومثير وممتع حيث ستكرس الحلقة الثالثة القادمة للحظة الانطلاق .

يتبع