كانت بضعة كلمات كافية لتشرح لإنسان العصور القديمة قصة خلق الكون :" في البدء خلق الرب السماوات والأرض" هذا ما ورد في سفر التكوين في التوراة، وتكرر نفس الشيء في القرآن :" خلق الله السموات والأرض ثم استوى على العرش" وبآلية بسيطة هي الإرادة أو المشيئة الإلهية المختزلة بعبارة :" كن فيكون"، أما العلم الحديث فقد اختزل هو الآخر الأمر بكلمتين :" الانفجار العظيم"، وخلف كل جملة من هذه الجمل قصة تحتاج إلى مجلدات وأزمنة طويلة لتروي حقيقة ما حدث. التأمل في مكونات ومحتويات الكون المرئي المنظور القابل للحساب والرصد يثير القشعريرة في البدن ويكاد أن يخنق الأنفاس لأننا سنعي حينها بأننا سنتطرق إلى أكبر الألغاز المحيطة بنا، وبالتالي فإن الحد من ملكة التأمل والتعمق يعني الحد من قدرة الإنسان على التسامي والاقتصار على المجال الغريزي لدى الإنسان وإقالة العقل وملكة التفكير عنده. فالإنسان هو الوحيد على وجه الطبيعة ، على الأرض على الأقل، الذي يتساءل هل نحن وحيدون في هذا الكون المهول الممتد أمام أنظارنا؟ وهل هناك عملية خلق لهذا الكون الفيزيائي والمادي المرئي والمنظور وكيف تمت؟ ولو كان الكون المرئي مخلوقاً فهذا يعني حقاً أنه له بداية وستكون له نهاية فمتى ظهر الكون المرئي ومن ماذا؟ وماذا كان هناك قبل انبثاقه؟من أين جاءت المجرات ومم تتكون؟ هذه ومئات الآلاف من الأسئلة المشابهة طرأت وستطرأ على أذهان البشرية منذ فجر الإنسانية إلى يوم الناس هذا وبالكاد نبدأ اليوم بالإجابة على بعضها على نحو تقريبي ونسبي وإن كان ذلك بطريقة علمية وعقلانية. لنبدأ حصيلة أولية تقول أن الكون المرئي يحتوي من مائة إلى ثلاث مائة مليار مجرة يمكن رصدها من خلال التلسكوبات والأقمار الصناعية والأجهزة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، وكل مجرة منها تحتوي على 100 إلى 300 ألف نجمة أو شمس على غرار شمسنا، أكبر منها أو اصغر منها بملايين المرات، وكل نجم يشكل بدوره نظاماً شمسياً كنظامنا الشمسي فيه عدد من الكواكب والأقمار الطبيعية الصخرية الصلدة أو الغازية. ولكن لا يجب أن ننسى أن مجموع نجوم الكون المرئي ومجراته وغازاته وكواكبه وأقماره ومادته الملموسة لا تشكل سوى 5% من مكوناته الحقيقية والباقي أي ألــ 95% الأخرى الباقية مكون من مادة غريبة وغامضة ومجهولة الماهية وغير مرئية ولكن يمكن رصدها من خلال تأثيراتها الثقالية، ألا وهي المادة السوداء أو المظلمة matière noire، ومعها طاقة غامضة وغريبة مجهولة الهوية هي الأخرى معروفة بالطاقة الداكنة أو المعتمة أو السوداء énergie sombre، إلى جانب اختفاء نصف مكونات الكون المادية والتي ظهرت في اللحظات الأولى لانبثاق الكون من لاشيء وهي المادة المضادة antimatière التي اختفت ولا ندري أين تتواجد وكانت في البداية مساوية تقريباً لقدر ونسبة المادة الطبيعية الملموسة. ترتبط المجرات ببعضها رغم المسافات الهائلة التي تفصل بينها ، بثقوب سوداء مختلفة ومتنوعة الأشكال والأحجام ومنها الثقوب السوداء العملاقة التي تحتل مراكز المجرات ولها تأثير كبير على تطور المجرات وتحاول أن تمنع تشكل النجوم. وعند الحديث عن الكون فإننا بذلك نكون كمن يتحدث عن تاريخه وحياته الخاصة فنحن جزء لا يتجزأ من هذا الكون. 

يمكننا أن نتخيل مدى رعب وإفتتان السكان البشر الأوائل القدماء في العصور القديمة في الماضي السحيق للأرض عندما كانت السماء في مخيلتهم وهلوساتهم مليئة بالكائنات الخيالية التي تمتلك قدرات غير محدودة منها الملائكة والشياطين والجن والعفاريت الذين يتحكمون بحياة ومصير البشر الضعفاء العاجزين ، خاصة أمام الظواهر الطبيعية التي كانت تبدو لهم كأنها إعجازية فاختفاء الشمس فجأة إبان الخسوفات الكبيرة كان يعزى لقوى خرافية تسكن السماء وتتحكم بحركة الشمس والقمر والكواكب ، ولكن كانت هناك قلة من المفكرين والفلاسفة الإغريق الواعين والمدركين لماهية الطبيعة المادية من أمثال تاليس وميليهوآناكساغور و آناكساماندر وغيرهم، ودورهم في تطور الوعي البشري ونمط التفكير عند البشر حيث اتفقوا على عدم البحث عن إجابات خرافية خارج إطار الطبيعة نفسها من أجل العثور على إجابات وتفسيرات للظواهر الطبيعية وكانوا بمثابة الآباء للطرق والمناهج العلمية التي ندرسها اليوم. 

ومنذ ذلك الوقت وهم يعرفون أن المادة مكونة من ذرات وإن الشمس هي مجرد نجم عادي من بين عدد هائل من النجوم تسبح كلها في الفضاء وإن الأرض كوكب عادي صغير يسبح في الفضاء بدون دعائم تسنده ولقد عرفوا ذلك بحدسهم المتطور آنذاك وهو ما أكد صحته العلم الحديث اليوم. بيد أن التطور الأهم الذي شكل انعطافة جوهرية في هذا السياق ، يتمثل باختراعالتلسكوبات والميكروسكوبات الحديثة، والذي بدأ منذ عهد النهضة مع غاليلو غاليله وإسحق نيوتن حيث اكتشف البشر القوى والقوانين التي تحكم المادة وإنها هي ذاتها الموجودة على الأرض وفي الفضاء. 

أكد علماء الكيمياء في القرن الثامن عشر وجود الذرات كما شخص علماء الأحياء البيولوجيين صيرورة تشكل الحياة وعناصرها الأساسية. أما الدراسات المقارنة للأشكال الحيوانية والنباتية الحالية والأحفورية، فهي التي أوحت لشارلس داروين بفكرة التطور والانتخاب الطبيعي البيولوجي انطلاقاً من الخلايا الأولية البدائية وصولاً إلى الأعضاء العضوية الحالية الأكثر تعقيداً وكانت هذه الاكتشافات والتطورات هي التي ألقت الضوء على أهمية عامل الزمن كبعد من أبعاد الوجود وأهميته في تركيبة العالم .

أما الطفرة التطورية الأهم في مسار التقدم العلمي والكوسمولوجي فقد حدثت في سنة 1965 مع اكتشاف الأشعة الراديوية الفلكية الأحفورية الميكروية الخلفية المنتشرة rayonnement fossile radio astronomique diffus التي انطلقت منذ اللحظات الأولى لإنبثاق الكون المادي المرئي، وهي الأشعة التي أكدت وأثبتت صحة نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ la théorie di Big Bang، ولقد أسند هذا الاكتشاف والرصد والمشاهدة فكرة أن للكون حكاية وتاريخ وأعطته عمر يقدر بــ 14 مليار سنة وعلى نحو التحديد 13.82 مليار سنة حسب معطيات التلسكوب الصناعي الفضائي بلانك. ومنذ ذلك الحين بات من واجب ومهام ودور علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية وعلماء الكونيات تقديم وعرض وربط المراحل التاريخية للكون المرئي على غرار علماء الآركيولوجيا وعلماء التاريخ القديم. وتم التركيز على الحفريات الفضائية والكونية المحملة بالمعلومات عن الماضي بعد تحليل الأطياف الضوئية والإشعاعات الكونية والذرات والجسيمات الأولية للمادة لا سيما تلك الغارقة في القدم. إن عملية سبر أسرار الكون تتطلب زج كافة العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء والأحياء أو البيولوجيا وعلم الفلك والجيولوجيا والرياضيات وعلم الآثار وعلم اكتشاف الكواكب الخ ولكل منها دوره في صياغة فصل من فصول تطور الكون المرئي وحقيقته . ويستمر البحث العلمي اليوم من خلال التركيز على كشف أسرار المادة ومكوناتها الأصغر والأكبر، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، وزج نظريات علمية جريئة وجديدة كنظرية الأوتار الفائقة التي تنطوي على نظرية تعدد الأكوان أو الكون التعددي والأكوان المتوازية والفضاء التوبولوجي المتعدد الأبعاد وتعدد الأبعاد المكانية وكشف معضلة الزمن وطبيعته وماهيته وهل هو موجود أم افتراضي. ولقد أتاحت النظريات العلمية الجديدة للعلماء بالتعاطي مع موضوعات كانت بالأمس القريبة شبه محرمة، ومعالجة مسائل كانت متروكة بدون إجابات ناجعة ومقبولة علمياً وذلك بإلقاء أضواء جديدة عليها وبمقاربات جديدة ومختلفة عن طرق ومناهج الماضي وكلها تتعلق بمستقبل الكون المرئي ومصيره وعلاقة ذلك بالمادة السوداء أو المظلمة والطاقة الداكنة أو المعتمة ومستقبل الإنسانية العلمي والتكنولوجي والذكاء الصناعي والنانو تكنولوجيا والسفر بين النجوم في الفضاء الخارجي المترامي الأطراف وكسر حاجز الزمن والمسافات الفلكية المستحيلة. ولقد كرس العلماء أكثر من 70 مجلداً في الآونة الأخيرة للإحاطة بذلك تحت عنوان " رحلة في أعماق الكون". 

تبدأ الملحمة الكونية من لحظة وقوع الانفجار العظيم في اللحظة صفر عند حالة الفرادة الكونية اللامتناهية في الصغر واللامتناهية الكثافة والسخونة حيث ولد المكان أو الفضاء الكوني الحالي ومعه الزمن النسبي الذي نعرفه والمرتبط بصيرورة وتطور الكون المرئي حيث دخل الكون الوليد في مرحلة التضخم الكوني المفاجيء في أقل من واحد من مليار من الثانية وعند وصول حالة التضخم إلى غايتها القصوى امتلأ الكون المرئي بالمادة والقوانين والثوابت والمعادلات أو العلاقات الرياضية وكانت درجات الحرارة عالية جداً وبدأت بالانخفاض تدريجياً مع تطور الكون كما تقول لنا نظرية الانفجار العظيم التي ثبتت صحتها علمياً اليوم.

ظهرت الجسيمات الأولية البدئية بنوعين أو عائلتين هما: البوزونات والفرميونات الأولى هي حاملة للقوى الكونية الطبيعية والثانية تدخل كجزء عضوي أساسي فيتركيبة المادة وضمن عائلة البوزونات يمكن أن نضع الفوتونات وبوزونات هيغز بينما تضم العائلة الثانية الإلكترونات والنيوترونات والكواركات ويمكننا القول أن الجسيمات الأولية بكافة أنواعها ظهرت منذ اللحظات الأولى للإنبثاق المادي للكون المرئي ، وصارت فيزياء الجسيمات الأولية تعرف باسم فيزياء الطاقات العالية لأنها تصف أحداث الطاقات القصوى مثل حالة الكون المرئي الوليدة أو الحساء الكوني أو تلك الناجمة عن تصادم الجسيمات في مسرعات ومصادمات الجسيمات العملاقة مثل LHC التابع لسيرن وكالة الفضاء الأوروبية . 

وبعد مضي 380000 سنة تم جذب وحبس الإلكترونات من قبل النوى أو النواتات الذرية مشكلة بذلك الذرات الأولية وتم تحرر النور وانطلاق الضوء في المكان أو الفضاء الكوني البدائي وما يزال الضوء يرحل في هذا الفضاء الشاسع بسرعة ثابتة هي 300000كلم في الساعة، ورغم مرور حوالي 14 مليار سنة إلا أن الضوء القادم من بعض النجوم البعيدة لم يصل بعد إلى الأرض نظراً لبعد المسافة فهو يحتاج إلى بضعة مليارات أخرى من السنين الضوئية لكي يصل إلى الأرض ذات الأربعة مليار سنة، ربما عندما يصبح عمرها 8 أو 10 مليار سنة. ويمكننا مقارنة إشعاع الخلفية الكونية الميكروية الأحفورية المنتشرة مثل إشعاعات أجهزة الميكروويف المطبخية .

تشكلت أولى النجوم في الكون المرئي بعد مرور 560 مليون سنة بعد الانفجار العظيم وأحجامها مختلفة ومتنوعة تتراواح بين عشر كتلة شمسنا أو أكبر منها بستين مرة وكلما كان النجم ذو كتلة كبيرة وحجم كبير كلما كان احتراقه أسرع وينطفيء بوقت أقل وكذلك تكون نهايته مثيرة واستعراضية ملفتة للانتباه . ففي حالة كون النجم أكبر بثلاث مرات من شمسنا فإن الإنهيار الثقالي لقلبه سيخلق المسعار الكبير أو السوبرنوفا وهو انفجار تكون تداعياته وهزاته الارتدادية وحجمه sa magnitude من الضخامة بمكان بحيث سيحرر بذاته كمية من الضوء تعادل أضواء نجوم المجرة بأكملها ، أما الكتلة المتبقية أو الناجمة فستنضغط داخل فضاء أو حيز مكاني من الصغر بمكان يؤدي حتماً إلى ظهور ثقب أسود وهو الجسم الكوني الأكثر غرابة وغموضاً ولغزية في الكون المرئي. ولقد ظهرت أولى المجرات بعد مرور 750 مليون سنة على حدث الانفجار العظيم اللبغ بانغ ولقد احتوت أولى المجرات على مئات المليارات من النجوم وعلى سحب غازية كونية وأغبرة كونية ما بين نجمية ومواد أخرى امتدت على نصف قطر طوله 300000 سنة ضوئية ــ والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء بسرعته الهائلة 300000 كلم في الساعة خلال عام أو سنة من السنوات الأرضية ــ وتصنف المجرات حسب شكلها برزت منها أربعة أشكال رئيسية إثنان منها هي الحلزونية و الإهليجية كما هو حال مجرتنا درب التبانة ، أو البيضاوية أو غير المنتظمة ، وكلها تتحرك وتدور حول نفسها وحول محاور وذات دورات مغزلية وتتجمع المجرات داخل ما يسمى العناقيد المجرية أو الحشود المجرية الآماسات les Amas، وكل واحد منها يضم بين 100 إلى 300 مليار مجرة ، وكل ذلك في كون واحد هو كوننا المرئي القابل للرصد والمراقبة والمشاهدة الفلكية والتلسكوبية.

95% من مكونات الكون المرئي هي المادة السوداء أو المظلمة والطاقة الداكنة أو المعتمة وذلك بسبب استحالة رصدها وتصويرها ورؤيتها وهي مكونات موزعة على نحو عشوائي غير منتظم كما يبدو للوهلة الأولى على شكل هيولى أو هالات Halos أو شبكات أو خيوط متشابكة filaments في حين إن الطاقة المعتمة أو الداكنة أو السوداء موزعة على نحو منتظم في الكون المرئي ويعتقد أنها هي التي تقف وراء توسع الكون لأنها تملك قوة طاردة أو نابذة عكس الجاذبية أو الثقالة الكونية ومايزال التوسع الكوني قائماً بل وبتسارع أحياناً حتى يأتي الوقت الذي تتفكك فيها العناقيد أو الحشود المجرية وتفقد كل اتصال فيما بينها وعندها سوف تنطفئ الحياة أينما وجدت في الكون المرئي.

يتبع