يُحسَب لإيران أنها أبرَع مَن عمِل على نحو إستراتيجيّ بقول شاعر الغَزل العربي عمر بن أبي ربيعه،إذا جِئتَ فامنحْ طَرْف عينِكَ غَيرنا، لكَيْ يَحسبُوا أنّ الهَوى حيثُ تَنظُر.
فإيران كما بدى لاحقاً ومن خلال حَرسها الثوري والأحزاب والميليشيات التابعه لها نجحت في ممارسة التضليل وكانت عينها على إسرائيل فيما غاية هَواها كان التّغلغل والنفوذ في الدول العربيّة.
ويُحسب لإسرائيل بالمقابل أنها أقدر من إستلْهَمت بيتاً شعريّاً للمتنبي مُعدّلاً معكوسا لمعناه الأوّل، تَجري الرّياحُ كما تَجري سفينتُنا، نَحن الرّياحُ ونحنُ البَحرُ والسّـفـن.
فغالباً ما لم تكتفي إسرائيل بقراءة المعادلات المُستجدة بل قاتلت من أجل تطويعها ونجحت في صناعتها أحياناً.
أما المُعادلة نفسها التي تمّ إستيعابها بالكامل فيما بعد ضمن إستراتيجيّة إسرائيل العامّة فعنوانها " الإسلام السياسي " الذي وَجَد نفسه إثر هزيمة العرب الحُزيرانيّة أمام فراغ شامل يُتيح له التقدّم لطرح إديولوجيته كبديل حضاري لقيادة المجتمعات نحو النّصر!، وتنفّس هذا التيّار الراديكالي الصّعداء، ولاحت له إمكانية الإمساك بمقاليد السلطة، فسار بديناميكية متسارعة، ثم حلّت اللحظة التاريخية لهذا التيّار مع الإطاحة بـالشاه محمد رضا بهلوي ووصول روح الله الخميني إلى الحكم في إيران، جاء هذا في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وكان للشيعة اللبنانيين دوراً متصاعداً فيها نظراً للحرمان الذي لحق بهم سياسياً وتنموياً، معطوفاً على تذمّرهم _ سراً وعلانية_ من ممارسات الفصائل الفلسطينية التي إتخذت من موطنهم في جنوب لبنان مسرحاً لعملياتها العسكرية ضد إسرائيل، ما أدى إلى قيام الجيش الإسرائيلي بغزو جنوب لبنان لغرض مطاردة المقاتلين الفلسطينين، أنذاك إنتهت الأزمة سريعاً بتدخل مجلس الأمن وانسحاب إسرائيل، إلاّ أنه وفي عام 1982 ستجتاح إسرائيل مجدداً الحدود اللبنانية وتصل إلى العاصمة بيروت، ونتيجة لهذا الاجتياح خرج مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينّة بأسلحتهم إلى تونس ودول الشتات وتشكل بالتزامن مع ذلك حزب الله بإعتباره إمتداداً إديولوجياً وذراعاً عسكرياً مُدرّباً على أيدي الحرس الثوري الإيراني، وأصبح أحد أطراف المقاومة للإحتلال الإسرائيلي.
والشاهد مما سبق أن جذور الإهمال المُزمن الذي عانى منه المُكوّن الشيعي اللبناني على وجه الخصوص، ووجود المقاتلين الفلسطينيين في الجنوب وفوضى سلاحهم، والإجتياح الإسرائيلي بما شكّله من قيود على وجود السكّان وكراماتهم، وإنتصار ما سمّي الثورة الإسلاميّة في إيران وإعتبارها مصدر إلهام وسند من خلال إطلاقها مفهوم تصدير الثورة، والرغبة التي عزّزتها القدرة على تغيير التوازنات الداخلية في لبنان وتحقيق نفوذ سياسي، كلّها عوامل مهّدت مجتمعة إلى نشوء حزب الله ثم تمدده لاحقاً إلى خارج الحدود.
وفيما شكّل الطّابع الراديكالي المذهبي لحزب الله بَـهجة خفيّة لإسرائيل لغايات كثيرة تتّصل مباشرة بإستراتيجيتها في محيطها الجيوسياسي، شكّل في الوقت نفسه نُفوراً وتحفظاً لدى مكونات وأحزاب أخرى من النسيج اللبناني، لكن كيف لهذه القوى أن تنبُز ببنت شفة ومعظمها عبارة عن ميليشيات طائفية متحاربة وغارقة في مستنقع الحرب الأهليّة، هكذا إستفاد الحزب الناشيء من كونه ليس نشازاً وراح يتلمّس سُبله في الميدان والسياسة فإنشغل إبتداءاً ببناء قدراته الذاتيّة ومؤسساته الخيرية والإجتماعية والتعليمية والصحيّة كرافعة لحاضنته الشعبيّة المذهبيّة ثم عمل للإستحواذ على مساحة نفوذ جاءت على حساب "حركة أمل " غريمته على الساحة الشيعية أنذاك، ولم يَبرُز في مواجهة إسرائيل بشكل واضح إلاّ بعد أن إستقر له الوضع مع بداية التسعينات وبعد نشوء تحالف جديد بين نظام حافظ الأسد الذي كان وصياً على لبنان وبين راعِيْه النظام الإيراني، قضى هذا التحالف بتكليف حزب الله منفرداً مسألة الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي.
شهدت تلك المرحلة تزخيماً قتالياً حيناً وعمليات "تذكيريّة" أحياناً إلاّ أنها على وجه العموم تمَايزت جذرياً عن مرحلة الفصائل الفلسطينيّة في الجنوب بكونها أكثر توجيهاً وإنضباطاً، وإستُثمِرت بعناية فائقة في رمال التوازنات السياسية المتحركة، كبّد حزب الله إسرائيل في هذا الصراع خسائر بشريّة بلغت 40 جندياً حتى إنسحبت من لبنان عام 2000 وتم بذلك التحرير، ثم ماذا بعد؟
عاد الجدل حول دور حزب الله في السياسة الداخلية، وعزّز شكوك المُكونات الأخرى إصراره على الإحتفاظ بسلاحه، هذا السلاح _الذي إصطبغ بهوية مذهبية بحتة داخل لبنان وأدى إلى إنشطار المجتمع عامودياً بعد إغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق _ أكّد الشبهات حوله بعد أن تبيّن أن له وظيفة أخرى مع تدخله عسكرياً وأمنياً في الحرب السورية تحت عنوان حماية المقامات والمقدسات، ما دفع بالمكوّنات اللبنانيّة ومعها عموم السنّة العرب في الدّول العربيّة إلى إعتبار هذا التدخّل إحتلالاً وتورطاً في سفك دم الشعب السوري يرقى إلى درجة الخيانه وإرتكاب جرائم الحرب، فيما يستغرب الحزب هذا الإتهام ويرى في نفسه أنه يدْفَع بخيرة شبابه لحماية المقامات الدينية وأهله وبيئته وحدود لبنان من إستهداف الإرهاب، بل ويُضفي على أعماله القتالية طابع القداسة، هكذا وقعت الواقعة داخل البيت الواحد.
هلّلتْ إسرائيل لإنخراط حزب الله في الحرب السوريّة، ويرى مراقبون أنها نجحت_ضمناً _ في تطويع ممارساته وإستيعاب سياساته حتى بات معظمها يصب في خدمة الإستراتيجية الإسرائيلية في دول الجوار.
إن استراتيجية التفكيك والتفتيت الشهيرة التي أطلقها رئيس وزراء إسرائيل الأسبق دايفيد بن غوريون كانت تقضي بتعزيز دور الجماعات العرقية أو الطائفية في سائر الدول العربيّة، وقد تطوّرت مع التحوّلات إلى دعم طموحات بعض هذه الجماعات العرقية والدينية في الإنفصال وتشكيل كيانات مستقلة عن الدول العربية التقليدية، ما يتوافق تماماً مع دعوة إسرائيل لدول العالم إلى الإعتراف بيهودية الدولة بكل ما يستتبعه هذا الإجراء من ترتيبات لاحقة، وتتقاطع مشاركة حزب الله بهويته المذهبيّة في الحرب السوريّة بشكل واضح مع هذا الطرح.
أمّا مرتكزات تماهي حزب الله _ في العمق _ مع الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية فهي :
أولاً : لكونه حزباً أقلّوياً محكوماً بعقيدته الدينيّة الخاصّة والغير عابرة للطوائف، وبالتالي يكون محدود الأثر في محيطه حين إستثارة العصبيات،وهذا بذاته يوفّر إرتياحاً جذرياً لإسرائيل نظراً لأن صراعها معه مَوضِعي وظرفي ومضبوط بسقوف منخفضة.
ثانياً : لكونه مُحفزاً للإرهاب، فكلّما تحزّم حزب الله براياته المذهبيّة ورفع السلاح وتوسّع ميدانياً كلّما كان هذا مُحرّكاً لقوى راديكاليّة متطرّفه مخالفة له مثل القاعدة وداعش لمعاداته وقتاله، وبإنشغال الأطراف بعضها ببعض تدخل إسرائيل في راحتها الكبرى.
ثالثاً، لأنه مُجرّب، فمماحكاته وعملياته القتاليّة ضد إسرائيل كانت مضبوطة غير متفلّته، ومقبولة نسبياً وفق المعايير الدوليّة المعترف بها بين المتحاربين.
رابعاً : لكونه، بمعنى ما، مقيداً وغير قادر على الخروج من إرتباطه العضوي السياسي الأمني العسكري بالحرس الثوري الإيراني، وإستحالة أن يكون بذاته نواة إستقطاب وطني عام، فلا يمثّل تحدياً حضارياً لها و لا يشذّ عن القاعدة المذهبية التي إستكانت إليها معظم الأحزاب اللبنانية.
خامساً : لأنه، وبترجمة عكسيّة لمقتضيات الهوية الوطنية، وفي إطار سياسات الفرز والتقسيم، يمكن أن يُشكل قوة إستقطاب لما يسمّى " حلف الأقليات " بحيث يكون ملاذاً سياسياً وعسكرياً لحماية جماعات محكومة بخوف وتوجس دائم من أن يطالها الإرهاب.
إعتبارات كهذه يُضاف إليها أخرى أكثر تفصيلاً من شأنها أن تُريح إسرائيل، أمّا أسئلة مصلحة لبنان واللبنانيين، ومصادرة حقهم في العيش ببلد مستقر ومزدهر، وما إذا كان حزب الله عائقاً بنيوياً أمام قيام دولة عادلة، وحقيقة أن إستمرار الفساد والهدر مرتبط تلقائياً وجذرياً بحالة الفوضى وضعف الدولة جرّاء السلاح الخارج عن سلطتها، وأن إستقرار لبنان ونموه الإقتصادي مٌعطل بالكامل بسبب دور الحزب في تخريب علاقة لبنان مع العالم ومع محيطه العربي، فتبقى كلّها مُعلّقة بدون جواب حاضر في الظرف الراهن ما عدا حسرة أنّ الكبار يلعبون بمصائر الصغار، والوطن كالطير يرقص مذبوحاً من الألم، وليس واضحاً ما إذا كان أهل الطوائف يضحكون على حالته أم يبكون.
علي عدنان عميص
كاتب وصحافي لبناني
[email protected]
التعليقات