تأسّست حركة نداء تونس في اللحظة التاريخية "الصح" وعلى أيدي الرجل "الصح"، وليست ظاهرةُ اللقاء بين "اللحظة الصح" و"الرجل الصح" ظاهرة متكرِرة شائعة في مسارات التاريخ، بل هي ظاهرة استثنائية تحدث كل حين ولا تعاود الظهور إلا بعد الانتهاء من مرحلة والتأسيس لمرحلة جديدة.
كانت قوّة الزعيم بورقيبة تكمن في مواهب كثيرة من أهمها ولعه بالتاريخ، وفهمه العميق لقواعده وجدليته، وأرى أنّ تلميذه النجيب الباجي قائد السبسي من ذات طينته في فهمه للتاريخ وقدرته على إدراك لحظاته الحاسمة حيث يتوجّب اتخاذ القرارات اللازمة، خلافا للبعض الذي توهّم وجود لحظة تاريخية مناسبة رغم أنّه لم تمرّ على هذه اللحظة إلا سنوات قليلة مضت، تماما كما توهّم أن بمقدوره تمثُّل الزعيم بورقيبة أو الرئيس الباجي رغم أنه لم يظهر على الساحة السياسية الوطنية إلا قبل أقل من خمس سنوات، وطريق الوهم هذا عادة ما يودي بأصحابه إلى الهاوية مهما كانت موهبتهم القيادية أو حذلقتهم اللغوية والسياسية. 
لقد انطلق كثير ممّن اشتغل بشأن حركة نداء تونس من قياسات ومقدّمات خاطئة تماماً، لهذا وصل بالضرورة إلى نتائج واستنتاجات خاطئة أيضا، ومن ذلك قياسهم حركة نداء تونس مثلا على حزب التكتل، والحال أن ثمة أكثر من فرق جوهري لعلَّ أهمها ثلاثة: أوّلها أنّ نداء تونس هو الحزب الأول القائد للائتلافات وهو وضع مختلف عن التكتل الذي كان تابعا لا متبوعا، وثانيا أنَّ النداء رغم حداثته التنظيمية الحزب الأعرق في البلاد من جهة المرجعية الفكرية والسياسية، وثالثا أن الزعيم المؤسس لحركة نداء تونس هو تلميذ مباشر للزعيم بورقيبة أخذ عنه واشتغل مساعدا له ووزيرا في حكوماته منذ الستينيات وكان من أسبق المطالبين بالإصلاح السياسي. 
كما انطلق آخرون من أنَّ خروج الرئيس المؤسس من رئاسة الحركة إلى رئاسة الجمهورية هو خروج " قطيعي" (من قطيعة) لا مجرد خروج بروتوكولي اقتضته وظيفة رئيس الجمهورية، فانطلقوا بناء على ذلك في حملات "وراثة" محمومة رافعين كلمة حق أريد بها باطل هي الحرب على "التوريث"، مدفوعين بطموح شخصي جارف وغير مبرّرٍ لملأ الفراغ الذي تركه الرجل دون التوفر على الخصائص والمهارات الكافية، وعلى الرغم من أن الطموح مفهوم إلا أن خيطا رفيعاً يفصل بين الطموح وتورّم الأنا أو عبادة الذات التي تجعل العمل المشترك والقيادة الجماعية مستحيلة، والمفاجأة المزدوجة التي لم ينتظرها هؤلاء لكنّهم خلصوا إليها على الأقل بفضل عمليات سبر الاراء المتواترة، أنّهم فشلوا في إخضاع النداء على مستوى القيادة لبديل عن رئيسه المؤسس وهو ما يزال حيّاً يملأ الدنيا ويشغل النَّاس ويمارس قيادته الرمزية والتوجيهية لحركته وللبلاد قاطبة، وأنهم اكتشفوا بعد الخروج من النداء كذلك أنهم صنيعة له وأن حجمهم الحقيقي الشخصي ضئيل في الواقع مخالف للانطباع الذي يحملونه عن أنفسهم، وقد كان للقواعد الندائية دور في صناعة هذا الانطباع الخاطئ لدى هؤلاء.
أعود فأقول أن الحسابات الخاطئة التي أجراها وما يزال بعض رفاقنا وإخواننا في قيادة الحركة سابقا، والأوهام التي ساهمت في تضييعهم البوصلة، هي التي وقفت وراء اعتقاد البعض منهم أن المركب سيغرق فقالوا دعونا نفرّ منه قبل الغريق، أو أن الحزب انتهى وتلاشى وانهار فدعونا نساهم في الإجهاز عليه وبناء بديل له، فيما راهن البعض على ما هو أخبث أن يسخروا وسائل الدولة والحكم لتجاوز الحركة والسعي إلى إقناع رئيس الحكومة بأن يكون ناظم مشروع سياسي جديد لو لم يفطن إلى حيلتهم ويستنكف من مسايرتهم في التآمر والمكيدة..
والخلاصة أن كلّ هؤلاء سيصطدمون بالحقيقة المرة، مرّة بعد مرّة، وكلّما نشر استطلاع رأي أو سبر آراء من أنّ النداء صامد ما يزال يحظى بثقة الشعب على الرغم من كل ما يقال عنه ويكتب في شأنه، بل إِنَّنِي أزعم أن العكس هو ما حصل، فكلّما نهشت هذه النخبة في جسم الحركة التي جعلت منهم أسماء تذكر، كلما زاد تعاطف الشعب مع النداء وزاد احتقاره لهؤلاء الذي ينظر إليهم باعتبارهم خونة الملح والماء. 
كنت أقول دائما، وسأستمر في القول بأن كثيرا من "اللاندائيين" كانوا داخل النداء بل في أعلى هرمه تحديدا، فيما كان كثير من "الندائيين" خارج النداء يعانون من التجاهل والإقصاء، تماما كما كنت أشعر بأن جسم النداء تحمّل بمعجزة وجود رأس مزروع فيه لا يحمل ذات ملامحه ولا يعمل معه بالانسجام التام..لقد التحق كثير من قادة النداء السابقين بالحركة من باب مغالبة خصم ايديولوجي، معتقدين خطأ أو متجاهلين حقيقة النداء التاريخية من أنه نسخة جديدة معاصرة من الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية وليس "حزباً يسرويِاً حداثويا" كبيرا مثلما أراد البعض. 
لقد أدرك العقل الجماعي الشعبي التونسي هذه الحقائق، بفطرته السليمة وفطنته التي اكتسبها عبر تعاقب الثقافات والحضارات، ولم يساير رفاقنا وإخواننا السابقين في أحلامهم وأوهامهم وطموحاتهم المبالغ فيها، ورفض هذا العقل وسيرفض التجاوب مع الخطابات "الشعبوية" مهما عزفت على آلام المواطنين بسبب الأزمة المعيشية والتنموية، وسيختار دائما تجديد الثقة في النداء أوّلاً كمؤتمن للحكم لأن جميع بدائله وهمية، ولأنّه حزب وسطي معتدل وواقعي يعالج قضايا البلاد في ارتباط بمصالح تونس العليا أولا وضمن الإمكانات التي توفّرها شروط الواقع المعقد والصعب، وباعتباره حزب الرئيس الباجي قائد السبسي عنصر الاستقرار الأساسي في هذا البحر السياسي متلاطم الأمواج.
*وزير سابق، مدير مركز نداء تونس للدراسات