ليس هناك بلد في العالم العربي، بل في العالم بأسره يعاني من سيطرة الجامعيين على الثقافة بكل مفاصلها مثلما هو حال تونس! وسيطرتهم هذه أصبحت شاملة خصوصا في السنوات الأخيرة حيث استغل الكثيرون منهم الفوضى السائدة في جميع المجالات، واستفحال الديماغوجية الثورجية لكي يبسطوا سلطتهم المطلقة على كل المؤسسات الثقافية . فهو يديرون المركز الوطني للترجمة الذي أسسه بن علي ليتحول إلى ناد خاص فقط بأصحاب الرتب الجامعية. وكذا الأمر بالنسبة للمكتبة الوطنية، ولبيت الحكمة ، وإدارة الآداب، وبقية المؤسسات. وخلال السنوات الخمس الماضية، سلمت إدارة معرض الكتاب الذي ينعقد في أواخر شهر مارس-آذار من كل سنة إلى جامعييين فصالوا وجالوا فيها كما يحبون ويشتهون. وكانت دورة السنة الماضية الأسوأ. فقد تولى إدارتها جامعيّ معروف بضحالته وسطحيته حتى في مجال إختصاصه لتكون دورة خاصة بزوجته وأصدقائه والمقربين منه. وكنّا ننتظر أن تخفّ سيطرة الجامعيين على دورة معرض الكتاب في هذه السنة إلاّ أنه يبدو أنها إزدادت إستفحالا بحيث لم يبقى للكتاب والمبدعين غير الفتات، يتزاحمون، يتدافعون بالمناكب لنيل القليل منه!
يدير الدورة الحالية هو الدكتور شكري المبخوت رئيس جامعة منوبة منذ عهد بن علي. ولكن بعد سقوط نظام هذا الأخير، بدا له أن يركب الموجة الثورجية العاتية ناسبا لنفسه بطولات لم تكن له لا من قريب ولا من بعيد. فخلال مرحلتي نظام بورقيبة وبن علي لم يتعرض إلى أيّ سوء ، بل إرتقى المراتب درجة درجة هانئا مطمئنا إلى أن بلغ اعلاها. وهو المصاب أصلا بجنون العظمة ، وجد في تتويجه بجائزة بوكر عام 2015 عن رواية متوسطة القيمة مليئة بالأكاذيب اليسراوية لكي يضاعف من جنونه المذكور. لذا أصبح يتصرف وكأنه الروائي والقصاص الوحيد في بلاد أبوليوس والبشير خريف ومحمود المسعدي وعلي الدوعاجي. والعام الماضي استشاط غضبا ورفض مصافحة اعضاء اللجنة التي حرمته من جائزة القصة القصة القصيرة، مفضّلة عليه شاب من الجيل الجديد.والحال أن مجموعته:”السيدة الرئيسة" جاءت لتثبت جهله بفن القصة الجديدة في العالم العربي وفي العالم معتقدا أن شهاداته الجامعية تخوّل أن يفعل ما يشاء وما يريد حتى في مجال الإبداع والفن. فقد خلت مجموعته المذكورة من المتعة، ومن الإثارة، ومن الفن في مفهومه الأصيل والعميق. ومستعينا بزملائه في جامعة منوبة، أعدّ الدكتور شكري المبخوت برنامجا يعكس توجهاته الخاصة به وحده. كما يعكس المزيد من سيطرة الجامعيين على الحياة الثقافية في تونس. والغريب أن شاعرا مثل أولاد احمد وقصاصا وروائيا مثل البشير خريف الذين حرما من كل الجوائز الأدبية الرفيعة، وحتى غير الرفيعة منها، وعانيا أشدّ المعاناة من الإقصاء ومن التهميش من قبل الجامعيين والمؤسسات الثقافية الرسمية، كرّما في هذه الدورة ببعث جائزة تحمل إسم كلّ واحد منهما. معنى هذا أنه تمّ الإثبات من جديد أن تونس لا تكرّم مبدعيها، ولا تعترف بهم إلا بعد ان يرحلوا عن الحياة الدنيا . فيا خيبة المسعى! وكم كان مُحقّا المبدع علي الدوعاجي الذي عاش مثل أصدقائه من جماعة "تحت السور"في الثلاثينات من القرن الماضي، منسيا ومهملا عندما صرخ ملتاعا: "عاش يتمنى في عنْبة ...مات جابولو عنقود”(أي أنه عاش حياته متمنيا الحصول على حبة عنب واحدة فلما توفي وهبوه عنقودا). ونفس هذا الإعتراف المتأخر حصل مع الراحل المفكر المرموق العفيف الأخضر. فكما هو معروف ، لم يفتح باب الجامعة التونسية أمام العفيف الأخضر ولو لمرة واحدة لتقديم محاضرة، أو للإلتقاء بالطلبة لكي يستفيدوا من افكاره ومن أطوروحاته الذي كان يجترحها من الواقع العربي في مختلف تجلياته، وليس من الكتب الأكاديمية الصفراء الشاحبة شحوب أصحابها. وأبدا لم يمّل التعريف به من قبل الجامعيين الذين كانوا إمّا يجهلونه،أو يتجاهلونه لغرض في نفس يعقوب. لكن في هذه الدورة، كلف أستاذ لم تكن له علاقة بالعفيف لا من قريب ولا من بعيد، ليجمع من حوله زملءه وأستاذه د.عبد المجيد الشرفي الذي لا تربطه هو أيضا أية صلة فكرية او إنسانية بالراحل ل"الثرثرة" البلاغية الباردة حوله، وحول أعماله. ولو كان العفيف الأخضر لا يزال على قيد الحياة، لرفض مثل هذا التكريم لا لأنه أتى متأخرا، وإنما لأنه إهانة له ولمسيرته الفريدة من نوعها في الفكر العربي الحديث. وللمزيد من التأكيد على أن الجامعيين لا بدّ أن يكونوا دائما وأبدا في الصف الأول،إختار الدكتور شكري المبخوت تكريم أساتذته من الأموات ومن الأحياء. وهذا ما فعله مع الدكتور عبد القادر المهيري الذي توفي العام الماضي، ومع الدكتور حمادي صمود الذي تقاعد عن العمل منذ سنوات عديدة. والحال ان الأستاذين المذكورين لا ينتميان إلى الحياة الثقافية بأي حال من الأحوال. وكانت مسيرة كلّ واحد منهما داخل الجامعة وليس خارجها. لذا كان من الأفضل أن يتم تكريمها داخل الحرم الجامعي. وهذا ما حصل بالفعل. لكن يبدوأنّ الدكتور شكري المبخوت يرغب في المزيد من التكريامات، والمزيد من خطب المجاملة الكاذبة والمفتعلة، مُمعنا كما هو حال سابقيه في إبعاد وإفراد من يكابدون يوميّا عذاب الحرف والكلمة.ولإرضاء صديقه عميد كلية الآداب في جامعة منوبة الدكتور الكزدغلي المعروف بميولاته الشيوعية، إرتآى الدكتور شكري المبخوت تخصيص فقرة من فقرات الثورة الروسية التي إغتالها البلاشفة الفاشيون منذ يومها الأول! ولكن ما دخل معرض للكتاب في الثورة الروسية في فترة بات التونسيون يضيقون فيها بكل ما يمتّ لكلمة "ثورة" بصلة قريبة أو بعيدة؟ إليس هو "الضحك على الذقون" كما يقول العرب القدماء؟ وكلف الدكتور شكري المبخوت زملاءه الجامعيين بالإحتفاء ببودلير في ذكرى مرور 150 عاما على وفاته، والإيطالي امبرتو ايكو في ذكرى مرور عام على رحيله، حارما الشعراء والكتاب من المشاركة في الإحتفالين اللذين سيجد الجامعيون فيهما فرصة تكرار دروسهم الثقيلة المضجرة حول الشعر و حول الرواية واللسانيات.
التعليقات