يقول الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" عن العقل: انه اعدل الاشياء قسمة بين الناس، ولا يكفي ان يكون للمرء عقل، بل المهم ان يحسن استخدامه". والعقل عند الحكماء له تعريفات كثيرة، منها: ان العقل هو قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية. والعقل ايضا قوة الاصابة في الحكم، أي تمييز الحق من الباطل والخير من الشر، والحسن من القبيح. والعقل ايضا هو قوة تجريد، حامل معرفة، ومركز التفكير والاحكام، وملكة متعالية شكلت التفوق النوعي للإنسان بوصفه كائنا فكرياً.
لا يمكن لأي انسان منصف ان يجادل في أن العقل العربي يمر بأزمة حقيقية منذ فترة طويلة. يقول المفكرون والمؤرخون ان العقل العربي قد توقف عن الإبداع والعطاء، منذ سقوط بغداد على يد "هولاكو" في عام 656 هجرية (1258م)، وأصيب بالشلل، متصفا بضعف الرؤية وضحالة الفكر، وأصبح أسير الغيبيات والخرافات والشعوذة وتقديس وعبادة الفرد. وانا، شخصيا، اعتقد ان توقف العقل العربي عن الإبداع والعطاء حدث قبل هذا التاريخ بسنوات طويلة، أي منذ القضاء على المعتزلة (رواد النزعة العقلية) وحرق كتبهم ومحاربة فكرهم.
بدأ العقل العربي الحديث احتكاكه المباشر مع النهضة الفكرية الاوروبية منذ اوائل القرن التاسع عشر، واستمر هذا الاحتكاك والتعامل مع كل ما أثمر من ثراء للعقل واساليبه في تناول قضاياه الفكرية والسياسية والثقافية - بما فيها قضية التراث - الى منتصف القرن العشرين، دون صراع او تناقض اساسي مع الاعتقاد والثوابت الدينية، كما انه لم يحدث اي صدام يذكر مع السلطة السياسية وحليفتها المؤسسة الدينية التقليدية. خلال هذه الفترة نشأت حركة نشيطة في الاطلاع على فكر وفلسفة النهضة الفكرية الاوروبية، اضافة الى ترجمة الكثير من كتب فلاسفتها ومفكريها الى اللغة العربية. ترافق هذا مع ظهور نخبة من المفكرين والمثقفين والادباء، في مقدمتهم طه حسين، عباس محمود العقاد، محمد حسين هيكل، والشيخ علي عبد الرزاق.
لكن العقل العربي الحديث بدأ، منذ منتصف القرن العشرين، يواجه حالة عدائية من السلطات السياسية الوطنية الوليدة بعد انحسار مرحلة الاستعمار الاوروبي، فقد تبنت اغلب هذه السلطات مواقف متناقضة من العقل والفكر، ففيما عملت بجد لمنح الانسان العربي فرصته في التربية والتعليم، غير ان هذه الفرصة لم تكن سوى امتداد على السطح دون الغوص في العمق، حيث انتشر التعليم ولكن اضمحلت الثقافة. صحيح ان هذه السلطات حاولت الانسجام مع الوجدان الوطني والقومي في تطلعاته نحو تأسيس مشروع نهضوي حضاري متكامل، الا ان هذا التطلع صاحبته ظاهرة خطيرة تمثلت في التدخل الرسمي لهذه السلطات لمحاولة السيطرة على العقل العربي وصياغة مفاهيمه وتوجهاته بعيدا عن الشرط الأساسي للإبداع والتفتح، وهو شرط الحرية.
يقول الباحث المصري "مراد وهبة": على مدار التاريخ، جاء عجز العقل العربي عن تجاوز الماضي نتيجة لهيمنة المحرمات الثقافية على الذهنية العربية، إذ يرفض العقل العربي التعرض لمثل هذه المحرمات وتناولها بعقل ناقد لأنه ملتزم بالماضي، وحيث أن المحرمات الثقافية من إفراز الماضي سيظل العقل العربي يفكر في إطارها. والشائع عن المحرمات الثقافية أنها في مجالات الدين والسياسة والجنس، ويمنع العقل الناقد أن يحكم في هذه الثلاثية لأنه عاجز عن تلقي صدمات في معتقداته التي تثبت له مدى تخلفه.
العقل العربي لا يزال يرزح تحت سطوة التفسير الماضوي للدين المناقض لحقائق العلم والتقدم، والثقافة معدومة الصلة بالعلم والعالم المعاصر، ومؤسسات وبرامج تعليمية لا ترسخ القيم الانسانية المدنية، بل في الواقع ترسخ كل ما هو مناقض ومضاد لهذه القيم. يعيش العقل العربي حاليا في حالة من الهروب المستمر تجعله عاجزا عن مواجهة التحديات العلمية المعاصرة، وان هذا العقل بات يقتات على فتات الماضي، ويحصن ذاته بيقين من الغيبيات والخرافات، ويبرر عجزه بنظرية المؤامرة.
ما نحتاج اليه اليوم للخروج من نفق التخلف هو القطيعة مع ثقافة القداسة المطلقة التي منحناها لفقهاء يحتمون بثقافة الاسلاف ومحاربة أي فكر تنويري في تراثنا العربي. نحن في أمس الحاجة الى طفرة علمية وفكرية تخرجنا من هذا المأزق المظلم، وهذا امر يتطلب ارادة قومية، واصلاحا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وصحوة ثقافية تشارك فيها انظمة التعليم، والعلماء والمفكرين والمثقفين والكتاب، ووسائل الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.
التعليقات