قرار الاستفتاء

من هنا، بدأ الإقليم يشعر بالخطر على مستقبله، خاصة وأن الطبقة السياسية الشيعية مرتبطة مع إيران التي لا تؤمن بأية خطوة لتطور الإقليم سياسيًّا. وقد سارع قادة الإقليم إلى تحذير بغداد من تجاوزاتها للدستور وضرورة الإسراع بحل الإشكاليات المتراكمة من خلال زياراتهم المتعاقبة لبغداد، لكن يبدو أن المؤامرة كانت أكبر والهدف كان تدمير الإقليم وإلغاءه بالكامل، وهذا ما أكدته الأحداث المتعاقبة، خاصة حينما رفضت بغداد أي حوار حول مستقبل الموصل بعد التحرير، علمًا بأن قيادة الإقليم تحادثت مع بغداد الحكومة والأحزاب وأعربت لهم عن شعورها بخطورة الوضع وأنها ربما تذهب إلى الشارع الكردستاني في إشارة إلى الاستفتاء، وقد حصل ذلك قبل تحرير الموصل بفترة ليست قصيرة، ورغم ذلك كانت تلك الطبقة السياسية الحاكمة قد طبخت برنامجًا غير معلن لما سموه "إقليم شمال العراق" أو "محافظات شمال العراق" كما تستخدمه الآن الوسائل التابعة لهم؛ مما دفع الإقليم إلى إجراء الاستفتاء تحت مظلة القانون والدستور في التعبير عن الرأي.

لقد أثبتت الطبقة السياسية الحاكمة بشقيها الرئيسي الشيعي والملحق السني أنها ضد الفيدرالية وهو ما يناقض الدستور، وأنها -بإلغاء إقليم كردستان- ستعيد النظام الشمولي تحت ذريعة "الأغلبية السياسية"؛ تلك الأغلبية التي تهيمن عليها الطبقة السياسية الشيعية المسيَّرة من إيران، مع تغطية من "أحزاب زينة" سُنِّية وكردية معروفة، وبذلك تتحقق أهداف ولاية الفقيه تدريجيًّا وباستخدام آليات الديمقراطية بعد إلغاء أية محاولة لمعارضة تلك الولاية.

الحرب باسم الدستور

واليوم، وبعد استنساخ حكومة بغداد لكل أساليب وسلوكيات الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن الماضي وحتى إعلان الحرب على الإقليم واجتياح كركوك وبقية المناطق المستقطعة أساسًا من كردستان بسياسة التعريب والتغيير الديمغرافي خلال أكثر من نصف قرن، وخرق أهم مواد الدستور التي تحرِّم استخدام القوات المسلحة في النزاعات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم أو المحافظات، وفرض الحصار على شعب الإقليم من خلال الاستعانة بالدول الأجنبية (إيران وتركيا وغيرهما) لغلق الحدود ومنع دخول المواد الغذائية أو التجارية ومنع شركات الطيران من الهبوط في مطارات الإقليم، وإيقاف حركة السياحة من العراق إلى الإقليم، إضافة إلى إيقاف تعامل البنك المركزي العراقي مع المصارف الكردستانية أو العاملة في الإقليم، كل ذلك يأتي في سياق محاولة إلغاء الإقليم وتحطيم إرادة شعب من ستة ملايين نسمة، مَنَحَ من أجل حريته مئات الآلاف من الشهداء، وحقق خلال أقل من ربع قرن من السلام وعشرات المليارات من الأموال ما عجزت عن تحقيقه كل الحكومات العراقية خلال قرن من الزمان ومئات المليارات من الأموال.

تحديات داخلية وخارجية

إن مجمل هذه الأوضاع والتداعيات الإقليمية والدولية تضع الإقليم بين خيارين كلاهما صعب:&

الأول: القبول بدولة المواطنة في العراق وهذا يبدو صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلًا بعد مئة عام من حكم مختلف التيارات السياسية، وتحت هيمنة الأحزاب الدينية والمذهبية أو القومية، والثاني: خيار إنشاء الدولة الكردستانية الذي يخضع هو الآخر إلى عاملين أساسيين، أولهما: اقتصادي سياسي، وثانيهما: دولي وإقليمي وتحديدًا دول الجوار ذات العلاقة، وهي: تركيا وإيران وسوريا.

أ- تحديات داخلية:&

في الجانب الإنمائي والاقتصادي، لم تنجح حكومات الإقليم منذ 2003 في إنشاء بنية تحتية تخدم مصالح الأمن القومي للدولة القادمة فيما يتعلق بالأمن الغذائي حدَّ الاكتفاء (زراعة وصناعة وطاقة)، وانشغلت في بناء مجمعات سكنية وتجارية خدماتية غير مكتملة خاصة فيما يتعلق بالكهرباء والطرق والمواصلات والصحة والتعليم، وهذا ما شهدنا نتائجه في الآونة الأخيرة، كما لم تنجح بتطوير إمكانيات البترول وخاصة البتروكيميائيات والصناعات الغذائية والإنشائية والأدوية قياسًا على تعاظم مواردها منذ 2003، وفي الجانب السياسي، ورغم ما حقَّقه الإقليم من إنجاز حكومات ائتلافية، إلا أنه بقى أسير النزاعات والتنافسات الحزبية، ولم ينجح في بناء جدار سياسي اجتماعي عسكري متين يحمي مصالح الإقليم العليا، حيث تصدَّع ذلك الجدار في أول تحد له كما حصل في تسليم كركوك.

ب- تحديات خارجية:&

رغم النجاحات الملموسة المتحققة في العلاقات مع تركيا بدرجة كبيرة وإيران بدرجة أقل وسوريا بدرجة شبه معدومة، إلا أنها كشفت بعد إجراء الاستفتاء نواقص كثيرة، ونقاط خلل عديدة في خصوصية العلاقات مع تلك الدول؛ إذ لم تعمل حكومة إقليم كردستان على بناء علاقات أخرى مع مكونات سياسية فاعلة ومؤثرة وضاغطة في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الدول، فمثلًا؛ في الجانب الاقتصادي والاستثماري لم تصل تلك العلاقات والمشاريع والمصالح بين الإقليم وكل من تركيا وإيران إلى درجة أن تخشى حكومتاهما على تلك المصالح، لكون معظمها لم يكن مشاريع استراتيجية تؤثِّر أو تضغط سياسيًّا؛ حيث نافسا الحكومة العراقية في معاداتهما للإقليم ومشروعه في الاستفتاء، وعلى هذا القياس يمكن مراجعة ذات العلاقات مع أكثر الحلفاء قربًا، وهم: الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا، والمجموعة العربية والإسلامية.

وبالرغم مما سبق، ولكي لا نحصر أسباب ما جرى من تداعيات في جانب واحد أو مجموعة واحدة، فإن العديد من المؤسسات أسهم -كل حسب موقعه ومجال عمله- فيما حدث، ويتحمل المسؤولية أيضًا ابتداءً من ممثليات الإقليم الحكومية والحزبية في الخارج، وانتهاءً بالإعلام الكردي الذي لم ينجح في إيصال القضية الكردية بشكل مقنع على الأقل لدول الجوار، بينما نجح قرار السياسيين في الاستفتاء بتعريف العالم برمته بقضية الاستقلال، ولذلك نرى هذا الإصرار العجيب على إلغاء نتائج الاستفتاء، التي لا يمكن لأية سلطة داخلية أو خارجية إلغاؤه إلا باستفتاء آخر يلغي أو يثبت نتائج الأول. وعليه، ستبقى نتائجه وثيقة رسمية وتاريخية يعتمد عليها في أية محاولة أخرى للاستقلال في المستقبل.

لقد ذهب الأسكتلنديون إلى الاستفتاء وكذلك شعب كتالونيا وربما شعوب أخرى في أوروبا أو غيرها، والفرق بيننا وبينهم، أن شركاءنا في الدولة جيَّشوا الجيوش وصنعوا مئات الخونة ودمروا مئات البيوت وقتلوا المئات من المعارضين، ويلاحقون اليوم كل الذين شاركوا بالاستفتاء في كركوك والمناطق التي اجتاحوها، ففصلوا المئات منهم وسجنوا أعدادًا كبيرة من منتسبي وزارة الداخلية، وفي البرلمان الديمقراطي طردوا ومنعوا كل من شارك في الاستفتاء من البرلمانيين الكردستانيين، بينما ذهب رئيس وزراء بريطانيا ونخبته الحاكمة إلى الأسكتلنديين راجين منهم إعادة النظر في استفتائهم مقابل الموافقة على مطالبهم بل وإغرائهم بامتيازات أخرى للبقاء في المملكة العتيدة(8).

إن ما حدث بعد إجراء الاستفتاء في كردستان من ردود أفعال وحملات عسكرية وتهديدات من العراق أو دول الجوار، أيقظ شعورًا كاد أن يضعف أو يخف، وهو أنه لا خيار للعيش المشترك في كيان واحد مع هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية، فبعد أن كان الاستقلال مجرد حلم لنائم، أصبح اليوم تحديًا كبيرًا لدى شعب حيوي يقظ أيقن أن شركاءه على الأرض بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية لا يقبلونه إلا تابعًا، ولا يقبل هو إلا أن يكون حرًّا أبيًّا.

--------------

بين الكرد وبغداد 4من 4

مع ان الوقائع تشير إلى ان التباعد السياسي بين الأحزاب والتيارات السياسية في الإقليم ليست قليلة، إلا أن الأكيد هو ان هناك توافقا عاما بين كل الأحزاب على توحيد المطالب عند الدخول للمفاوضات مع كتل بغداد. الوضع الحساس للإقليم، وسنوات التعب الماضية نتيجة الخلافات على النفط مع بغداد، وظهور «داعش» والتململ الشعبي من الوضع يضيق الحركة لدى تلك الأطراف عند الدخول في مفاوضات تشكيل الحكومة في بغداد. وتتركز المطالب الموحدة على التمسك بالثوابت الكردية، وأبرزها حل أزمة كركوك والمناطق المتنازع عليها وفقا للمادة 140 من الدستور، ومنح الإقليم حصته المناسبة من الموازنة، والالتزام بتسليح قوات البيشمركه، بالإضافة إلى ضرورة العمل بمبدأ التوازن في الوزارات والمؤسسات الحكومية العراقية.&
تدرك القوى السياسية في بغداد أنه في حال اكتمال المسيرة السياسية والدخول في التفاوض مع أحزاب الإقليم ستبدأ الحوارات على المطالب الكردية أكثر صعوبة مما يظن البعض. وتعلم الأحزاب الكردية في الإقليم أن خيار تقديمها لتنازلات كبيرة لبغداد سيدر عليها بالويلات كون الانتخابات البرلمانية في أربيل على الأبواب لذلك ستتمسك بمطالبها حتى اللحظات الأخيرة، وإن كان من الممكن العمل على التسويات في ملف الحصص الوزارية والتساهل فيه حصراً.
مع الوقت تمر بغداد بمخاضات صعبة لولادة الحكومة المقبلة في حين يبدو من المسيرة السياسية في الإقليم ان الجهات السياسية الكردية أكثر رسوخاً وهدوءاً في عملها. يظهر ذلك الرسوخ مع وضوح المطالب التي تنادي بها تلك الجهات، ومع تخبط الجهات السياسية في المركز نتيجة أحداث عامة في الشارع العراقي، والذي لا تمتد تداعياته حتى اللحظة إلى الإقليم الكردي الذي يتابع معظم سكانه بدء الحملة الانتخابية فيه أكثر ما يتابعون المفاوضات مع بغداد على شكل الحكومة المقبلة.