في مقال سابق نشر في " ايلاف " تحدثت عن تشويه وتحريف حقائق التاريخ من قبل صناع الدراما العربية، وخصوصا كتاب الأعمال التاريخية التي تعرض لسير بعض الشخصيات الاسلامية. واليوم مع إنتهاء الموسم الرمضاني الذي زخر كالعادة بكم هائل من المسلسلات التلفزيونية التي يحير المشاهد في الاختيار بينها، سأختار ثلاث مسلسلات تابعتها بين هذا الكم الكبير لأبدي فيهم رأيي وأكشف التزييف الكبير الذي حصل في هذه المسلسلات وهي على التوالي " المهلب بن أبي صفرة " و " هارون الرشيد " و" عوالم خفية ".

 وباديء ذي بدء أقول بأنني لست ناقدا فنيا حتى أجيز لنفسي تأشير مكامن الخلل في تلك الأعمال، ولكن ما يهمني كمتابع وقاريء للتاريخ، هو التجاوز الكبير الذي حصل من قبل كتاب وصناع هذه المسلسلات على التاريخ الذي قرأناه وترسخت وقائعه في أذهاننا منذ زمن بعيد. فما لمسته من خلال تلك الأعمال المختارة هو تجاوز وتحريف غير مقبول لحقائق تعارفنا عليها، وسأحاول أن أضع القاريء الكريم أمام صورة التشويه المتعمد من قبل بعض صناع الدراما الذين قد يتبجحون بأنهم على دراية بوقائع التاريخ، فيوظفون تلك الوقائع بشكل مشوه ومتعمد لخدمة أغراض غير سوية، وكأننا لم يكفنا ما لقيناه من تشويه وتحريف متعمد من قبل المؤرخين ووعاظ السلاطين ومرتزقة الخلفاء الذين كتبوا التاريخ كما يحلو للحكام المستبدين.

من أول حلقة من مسلسل " المهلب " بدأت القصة بهجوم على قرية وخطف أحد الأطفال وتشرد والدته التي يسوقها القدر الى حيث " ظالم " والد المهلب. وهناك تبدأ قصة حب جنونية لـ" رباب " الجارية لسيدها والتي لم تنته إلا بختام المسلسل. وخلال تلك القصة، تتفرع قصص أخرى، منها قصة حب يزيد إبن المهلب مع الفتاة المسيحية، وقصة حب " ميمونة " ابنة رباب الجارية للمهلب. والتي بدأت منذ نعومة أظفار " ميمونة " الى حد آخر يوم في حياة المهلب. وبذلك تحول هذا العمل الدرامي التاريخي الى رواية عشق وغرام بين الأم وابنتها، مع الأب وإبنه، تخللتها مشاهد سخيفة لمشاحنات " خيرة " زوجة المهلب مع الجواري، وغيرتها الشديدة على زوجها والتي دفعتها الى حد الشروع بقتل الجواري اللائي عشقن المهلب، فضاعت السيرة الحقيقية للمهلب بن أبي صفرة التي زخرت بوقائع وحروب طويلة مع الخوارج من جهة، وما ساهم فيه من غزوات لفتح بعض البلدان أثناء حياته.

ولإضفاء طابع الفرفشة على المسلسل، لم يتردد كاتبه بإقحام بعض الأغاني والموسيقى الى العمل التاريخي، فشاهدنا الجارية " عناق " وهي تمسك بالعود وتترنم ببعض الأغنيات للترفيه عن زوجها والتغني بعشقه المجنون، في حين أن العود لم يكن له وجود في ذلك الزمن المبكر من التاريخ الاسلامي، وأتحدث هنا عن السنوات الأولى للتاريخ الهجري بزمن الخليفة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وهو تاريخ قريب الى بعثة النبي الأعظم..

في ظل الانشغال بقصص الحب والعشق وغيرة الزوجات، نسي كاتب المسلسل القصة الحقيقية للمهلب ودوره المشهود في حرب ومطاردة جماعة الخوارج، وكذلك قيادته للجيش الاسلامي في الغزوات لفتح أجزاء كبيرة من الهند والسند وسجستان وسمرقند، والحرب مع الترك. والأهم من كل ذلك رأينا في المسلسل أن المهلب قائد جيش الخليفة كان على علاقة ودية وجميلة مع عدوه اللدود الخارج عن الخلافة " قطري بن الفجاءة " بل كانا يتسامران معا في معظم الليالي وجيشاهما يتقاتلان خلفهما، حتى أنهما لم يترددا من تبادل الزيارات لخيام ومعسكرات بعضهما البعض بكل يسر وسهولة وكأنهما مدعوان الى حفلات الشاي واحتساء الشراب ؟!.

كان المهلب المعروف بشجاعته والمسلسل قد وصفه مرارا وتكرارا بأنه " سيد أهل العراق " لكن كاتب المسلسل صوره بغاية الضعف والخذلان أمام زوجته " خيرة "، وخصوصا حينما حاولت زوجته قتل الجارية " ميمونة " بالسم، فلم يكن للمهلب أي رد فعل على محاولة قتل محبوبته، وكذلك حين مسكت زوجته بالعصا لتنهال على الجارية الفارسية التي تزوجها المهلب، كان المهلب ساكتا لايحرك ساكنا خوفا من زوجته وهو المعروف بصلابته وبسالته في سوح القتال ؟!.

وبحسب المصادر التاريخية فإن ابن خلكان يذكر في كتابه " وفيات الأعيان " أن المهلب بن أبي صفرة قد أصيبت عينه في سمرقند لما فتحها سعيد بن عثمان بن عفان، في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وفي تلك الغزوة تلك قلعت أيضاً عين طلحة بن عبد الله الخزاعي الملقب بطلحة الطلحات، وفي تلك يقول المهلب :

لئن ذهبت عيني لقد بقين نفسي وفيها بحمد الله عن تلك ما ينسي

اذا جاء أمر الله أعيا خيولنا ولا بد أن تعمى العيون لدى الرمس

وهذه المعركة وقعت تحديدا في عام 56 هجرية أثناء خلافة معاوية، وتوفي المهلب عام 83 هجرية، أي أن المهلب عاش بعين واحدة بعد إصابته بسبعة وعشرين سنة، في حين أن صانع المسلسل جعل موته من تلك الإصابة تحديدا أثناء آخر معركة له ضد قطري بن الفجاءة. حتى أن الكاتب المحترف جعل قتل قطري بن الفجاءة بنفس يوم موت المهلب، في حين أن ابن قتيبة يقول في كتابه " المعارف " بقي قطريّ ثلاث عشرة سنة يقاتل ويُسلّم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين، والحجاج بن يوسف يسيّر إليه جيشاً بعد جيش وهو يردهم ويَظهر عليهم. ولم يزل الحال بينهم كذلك حتى توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي فظفر به وقتله في سنة 78 هـ، وكان المباشر لقتله سورة بن أبجر البارقي، وقيل أن قتله كان بطبرستان في سنة 79 هـ، وقيل عثر به فرسه فاندقت فخذه فمات، فأخذ رأسه فجيء به إلى الحجاج ". لكن كاتب المسلسل جعل موت قطري وإبن المهلب بنفس الوقت أثناء معركتهما الأخيرة ؟!! 

أما السقطة الكبرى للمسلسل فقد كانت تلك المشاهد المسروقة من فلم " عقل جميل " والذي يوثق لحياة عالم الاقتصاد الكبير جون فوربس ناش " الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد والذي أنتجته " هوليوود" في تسعينات القرن الماضي، وخصوصا تلك المشاهد التخيلية للعالم الكبير الذي أصيب في فترة من فترات حياتنه بمرض " إنفصام الشخصية "، وكانت تنتابه نوبات من الهلوسة حين يرى بعض رجال المخابرات في زمن الحرب الباردة. وهكذا فعل كاتب المسلسل بنقل نفس المرض الى المهلب الذي كان يحاور في خياله أبيه وميمونة ورباب، ويراهم يوميا أمامه. ولم يقتصر الأمر على المهلب فحسب، بل نقل العدوى المرضية الى قطري بن الفجاءة أيضا، الذي أصابه نفس حالة الهلوسة في الحلقات الأخيرة. والأنكى من ذلك هو أن الكاتب وضع " طبيبا نفسيا " يعالج المهلب من تخيلاته المرضية ؟! وما يثير السخرية بسذاجة المؤلف هو التمثيل الصوتي لرجل ظهر في الحلقات الأخيرة وهو يتحدث الى المهلب وقطري بأصوات " ظالم ورباب وميمونة " وكان هذا أمر في منتهى الغرابة، فهل يمكن قبول كل ذلك لمجرد خدمة الحبكة الدرامية ؟!.

لقد درجت الأعمال الفنية في السنوات الأخيرة على توظيف بعض وقائع التاريخ لخدمة أغراض درامية بحتة، في حين أن المطلوب هو العكس تماما، أي توظيف الدراما لخدمة التاريخ، ولكن تحت شعار " الجمهور عاوز كدة " لا يتوانى صناع الدراما من حشو الكثير من المشاهد غير الواقعية بالأعمال الدرامية مما يخرجها من أطار خدمة الحقيقة، والمسلسلات التاريخية المعروضة خلال السنوات الأخيرة لا تخرج عن اطار تشويه الحقائق تحت يافطة حرية العمل الدرامي، وهذه مصيبة كبرى لأن الأمر لايعدو سوى تشويه وتحريف لحقائق التاريخ المتعارف، فلم يبق أمام كتاب الدراما إلا أن يزجوا بأشياء غير متعارف عليها في حقب التاريخ بأعمالهم، وقد يجوز ذلك في اطار الأعمال الكوميدية، أما في الأعمال التاريخية فإن ما نراه اليوم هو الكفر بعينه، فهل سيصحو كتاب الدراما ليرووا لنا التاريخ كما هو دون قلب حقائقه أو تشويه وتحريف وقائعه ؟