تقرأ "إيلاف" كتاب تركي الدخيل "هشام ناظر... سيرة لم تروَ"، قراءة متأنية لما فيه من تفاصيل ممتعة ومفيدة. وفي هذه الحلقة قراءة للفصول الثالث والرابع والخامس من الكتاب، على أن تتابع القراءة في حلقة قادمة.
نهاد اسماعيل: لا أقدم هنا تكثيفًا لسيرة هشام ناظر كما كتبها تركي الدخيل في في كتابه "سيرة لم ترو"، بل أستمر في هذه الحلقة الثالثة في عرض انطباعات شعرت بها في اثناء قراءتي الكتاب. فلا بديل لتصفحه بهدوء، وقراءته بتمعن، لجني فائدة كاملة من كنز معلومات وتفصيلات لم تنشر سابقًا بهذا الأسلوب الشيق والصريح والممتع.
في الفصل الثالث من الكتاب، "من بغداد إلى الخرطوم"، يصل تركي الدخيل إلى حيث تم تعيين هشام ناظر وكيل وزارة، حضوره مؤتمر بغداد بعد هزيمة 1967. ترأس الوفد السعودي حينها الأمير مساعد بن عبد الرحمن، وزير المالية، وشمل الوفد وزير البترول احمد زكي يماني إلى هشام ناظر الذي يروي موقف الثوريين الذين يؤيدون قطع البترول عن الولايات المتحدة من جهة، وبين منتجي البترول من جهة أخرى، أي المملكة العربية السعودية والكويت وقطر. وزاد وجود الرئيس اليوغسلافي جوزف تيتو في بغداد من شحن الاجواء.
بغداد فالخرطوم
كان واضحًا لهشام ناظر أن الانقسام بين الفريقين هو سجال بين الرجعيين والثوريين. وكمثال على المواقف المتشنجة، هاجم ممثل الجزائر الرجعيين بضراوة، وكان يقصد السعودية، ما استفز هشام ناظر الذي رد عليه من دون تنسيق أو تشاور مسبق، قائلًا: "الذين تتهمهم بالرجعية يا حضرة ممثل الجزائر هم أصل العرب وهم أهل الجزيرة العربية، أما أنت فهل أتيت إلى هنا لتعلمنا العروبة بغير لغة أهلها، باللغة الفرنسية". وجهة نظر هشام ناظر أن وقف تصدير البترول سيأتي بالضرر على المنتج والمستهلك، وهذا كان صحيحًا إذ اثبتت الوقائع عقلانية هذا الموقف.
&قراءة في كتاب تركي الدّخيل (5/2) من ذكريات هشام ناظر: هكذا ولدت أوبك |
أخبر هشام ناظر اللجنة العليا في الديوان الملكي بتفاصيل ما جرى في اجتماع بغداد، فطلب منه مرافقة وكيل وزارة الخارجية عمرالسقاف إلى العاصمة السودانية الخرطوم لحضور الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية في آب (أغسطس) 1967.
بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية في الخرطوم، وصل السودان الملك فيصل على رأس الوفد السعودي، فنادى الملك رحمه الله عمر السقاف، وهو أول وزير دولة للشؤون الخارجية، وهشام ناظر وسألهما عن نتائج اجتماع وزراء الخارجية فعاجله المرحوم عمر بالاجابة: "لا شيء". استغرب الملك فيصل: "كيف لا شيء؟".
كان هشام ناظر يكتب تقريرًا ليقدمه إلى الملك فيصل فيه رؤية كاملة للموضوع، لكن البروتوكول تطلب أن يذهب التقرير إلى وزير البترول اولًا. لكن الأمير سلطان اخذ التقرير ودخل به على الملك فيصل. سأل الملك فيصل رحمه الله: "هشام لو أحببنا مساعدتهم ما المبلغ الذي تقترحه؟". أجاب هشام: "5 ملايين دولار يا جلالة الملك". فكان رد الملك: "لأ يا هشام حاول أن تزودهم قليلًا". في النهاية، ساهم الملك بمبلغ 55 مليون جنية استرليني، لا 55 مليون دولار. يقول هشام في الصفحة 124: "بدأنا، الوزير يماني وأنا، التخطيط لكيفية تأمين المبلغ هذا". فمؤتمر الخرطوم شق طرقًا جديدة لهشام ناظر.
وبينما كان هشام ناظر في الطائرة مسافرًا إلى طوكيو، سمع خبر تعيينه بأمر ملكي رئيسًا لهيئة التخطيط برتبة وزير. وعندما حطت الطائرة في مطار طهران قبل مواصلة الرحلة لليابان انتشر الخبر بسرعة وحول العالم كالنار في الهشيم.
مهندس الخطة الخمسية برتبة وزير
في الفصل الرابع، يروي الدخيل أن هشام ناظر قرر أن يُحدث تغييرًا شاملًا مواكبًا طموح الملك فيصل الذي عبر عنه في خطابه الملكي الذي أكد فيه أن بلاده لا تسير الا وفقًا لخطط. وجد هشام في الهيئة جهازًا اداريًا بموازنة متواضعة جدًا وبلا موظفين، وباشر بتصحيح الوضع بارسال مبعوثين للدراسة في اميركا. وزار هشام جامعات اميركية مشهورة مثل هارفرد وام آي تي العريقتين، واجتمع بأساتذة مشهورين في التخطيط.
كما زار معهد "ستانفورد للبحوث" وهو من أهم مراكزالبحوث المختصة وذو قدرات بحثية هائلة. يقول هشام ناظر: "وقعت اتفاقًا مع ادارة المعهد بأن يرسلوا لنا فريقًا بحثيًا، وقررت الاستعانة بفريق رقابي من جامعة هارفرد وأم أي تي". كل هذا يدل على رغبة ناظر في أن يتم استخدام أحدث التقنيات والاساليب المتوافرة في مجال التخطيط.
قدم هشام ناظر خطة التنمية الأولى في عام 1970 ضمن سلسلة من خطط خمس على مدى 18 عامًا. واطلع الملك فيصل على تفاصيل الخطة الأولى للتنمية، بندًا بندًا. وبعد خمس سنوات على وجوده في موقع المسؤولية رئيسًا للهيئة المركزية للتخطيط، وبتاريخ 13 تشرين الأول (اكتوبر) 1975، صدر أمر ملكي بتعيينه وزيرًا للتخطيط، وتحويل الهيئة إلى وزارة بكامل الصلاحيات.
عنت الخطتان الخمسينيتان الأولى والثانية بالبنية التحتية للبلاد ومشروعات المرافق العامة، وأخذت الخطة الثالثة&في الاعتبار انخفاض اسعار النفط. من الواضح انه من غير الممكن أن يتم تنفيذ خطة تنمية كبيرة من دون عقبات اوارباكات. يقول الدخيل في الصفحة 146: "يدرك هشام ناظر أن وزارته كانت تتحول من وقت إلى آخر لتصير شماعة يعلق عليها البعض من مؤسسات وأفراد اخفاقاتهم، إلا أن ذلك لم يمنعه من القيام بدوره مثل الرقابة على المشاريع التي كانت تلتزمها الوزارات المعنية الأخرى ضمن خطط التنمية".
ركزت خطة التنمية الأولى على تعبيد طرق المملكة وزيادة امدادات شبكة المياه والطاقة وتنمية الموارد البشرية، وركزت الخطة الخمسية على زيادة فاعلية دور القطاع الخاص وتشجيعه. وتحسين القاعدة التقنية في العديد من القطاعات الاقتصادية ورغم حرب الخليج الثانية عام 1411 (1991). احرزت خطة التنمية الخامسة تقدمًا ملموسًا في تحقيق أهدافها.
وكما يقول الدخيل، لم ينتهِ دور ناظر هنا ولم تنتهِ احلامه كذلك، وبقيت الأحلام وإن تحقق بعضها، وتم اختياره بتاريخ 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 وبأمر ملكي للقيام بمهمة جديدة، فتم تعيينه نائبًا لرئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي كان يرأسها آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز.
الهيئة الملكية للجبيل وينبع
بحسب الفصل الخامس، وفي عام 1975، خلال خطة التنمية الثانية، وضعت مؤسسة الحكم في المملكة واحدة من أهم استراتيجيات التنمية التي كانت تهدف آنذاك إلى انشاء اقتصاد فاعل ومنوّع. كان الدافع وراء انشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع رسم السياسات الاستراتيجية والخطط لتطوير العمل من تخطيط مدينتين صناعيتين وتنفيذهما، بوصفهما أهم المشروعات التنموية العملاقة في المملكة، وتحويلهما إلى مشروعات اقتصادية لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية. لكن هشام توصل إلى قناعة انه لا يمكن جذب مستثمرين من دون إعداد بيئة قابلة للاستثمار. يقول هشام ناظر: "كل ذلك دفعني إلى التفكير باقتراح انشاء الهيئة بالاضافة إلى اهداف اخرى منها تنمية المناطق".
في الصفحتين 159 و160، يذكر هشام ناظر قصة قرية ابو عريش التي كانت بحاجة ماسة ليتم اختيارها لبناء هذا المشروع او ذاك. كان مواطنو تلك القرية يتبارون لاستقطاب الأجهزة الحكومية لأجل الاستفادة من تأجير بيوتهم لتلك الأجهزة لتحصيل عوائد مالية. هذه المسائل جعلت هشام ناظر ينظر آنذاك إلى الأحساء والجنوب من منظار مختلف، يقوم على معالجة الأزمة المتجذرة هناك من نواحيها الانمائية والاقتصادية وغيرها. اهتم هشام بمسألتين إحداهما انماء الجنوب والاحساء كمكونين أساسيين من مكونات المملكة، وعلى الدولة الاهتمام بهما والنظر اليهما بنظرة خاصة، وهذا دفعه إلى تقديم اقتراح تأسيس هيئة ملكية تتخذ قرارات سريعة، تهتم بتنفيذ مشروعات تحتاجها المنطقتان تنفيذًا سريعًا.
وينسب الدخيل بعض المعلومات والتفصيلات الهامة الواردة في الكتاب إلى الدكتور جميل الجشي الديبلوماسي والمسؤول السعودي في كتابه "ومررت بالدهناء" الذي صدر عام 1998، وتناول فيه موضوعات عديدة منها التفاوض مع شركة "بكتل" لإدارة المشروع، ولمساعدة الهيئة الملكية في التعامل مع بكتل في النواحي القانونية. قرر هشام ناظر التعاقد مع شركة شيرمان وستيرلنج الاستشارية القانونية الاميلاكية ومكتب سعود الشواف للاستشارات القانونية، وهو شركة استشارية سعودية قانونية. يشرح هشام ناظر اثناء سرده الأحداث أن بكتل أرادت السيطرة على كل المشروعات من دون شراكة مع السعودية، وهذا مرفوض. وكانت مفاوضات طويلة وشاقة. وأكد الجشي أن المفاوضات مع شركة بكتل لم تكن سهلة على الاطلاق، بل كانت صعبة للغاية، تخللها الوقوف على كل حرف من الاتفاقية واجراء تعديلات كثيرة لضمان أن تكون في مصلحة المملكة العربية السعودية.
ناعسة على شط الخليج
في 24 حزيران (يونيو) 1976، وقع هشام ناظر الاتفاقية نيابة عن الهيئة الملكية، وكانت مدة الاتفاق 20 عامًا، وأدى ناظر دورًا حاسمًا في المفاوضات، وبدأ العمل ببناء مدينتي الجبيل وينبع تمامًا، كما تصورت الهيئة الملكية ورئيسها الأمير فهد ونائب رئيسها هشام ناظر، وتمامًا كما كلف الفريق المفاوض. كان ناظر فخورًا بهذا المشروع الضخم، فيشرح&أن مشاريع الجبيل وينبع وانشاء الهيئة الملكية قبلها أفادت المملكة بقدر لا حدود له، لا من الناحية الاقتصادية فحسب بل من الناحية المادية والسياسية وفوقها جميعًا من الناحية الفنية.
كم هي جميلة ورائعة تلك الفقرة على صفحة 179:"ليست الجبيل وحدها تسترخي ناعسة على شط الخليج"، على تعبير هشام ناظر بل أصبحت ينبع كذلك، ففي يوم افتتاح المشروع فيها برعاية الملك خالد، خاطبه هشام: "أنت في بلد اذا عسعس ليله، عسعس على أمن، واذا تنفس صبحه، تنفس على يُمن".
عندما يتحدث هشام ناظر عن العمل والانجاز، كان يؤكد دائمًا أهمية وجود مساهمات الآخرين الهامة وتصميمهم كأعضاء مجلس الادارة وتجانسهم للعقلية العلمية التي كانوا يتمتعون بها ومنهم المرحوم الدكتور غازي القصيبي ومحمد ابا الخيل والمرحوم فايز بدر وخالد التركي وغيرهم. وروى الجشي في كتابه قرار الانتقال إلى الجبيل ووضع حجر الأساس لبدء المشاريع وفي النصف الثاني من عام 1977 بدأت ادارة المشروع الانتقال تدريجًا للجبيل.
في حفل الافتتاح، ألقى هشام ناظر كلمته الشهيرة التي تحدث فيها عن الجبيل "البقعة الأمل"، فقال: "إن الجبيل لم تعد تلك الناعسة تسترخي على شط الخليج تتعانق أمواجه في رفق مع خصائلها بل ستتحول باذن الله إلى ولادة تحمل في احشائها الخير لأمتها".
اختار هشام ناظر يوم الافتتاح المهندس سامي الموصلي لادارة مشروع ينبع، وهو من أكفأ المهندسين الذين عملوا معه في وزارة التخطيط.
كان رأي هشام ناظر أن مد خط الانابيب بين الجبيل وينبع يؤسس لمنطقة تكون رديفًا ضروريًا للمنطقة الشرقية، تستعمل للتصدير في حال حدوث أي نوع من الاضطراب في الخليج العربي، وهذا ما أثبته الوقت لاحقًا. وكانت هناك حسابات استراتيجية منها عدم الاكتفاء بالمنطقة الشرقية او الساحل الشرقي مكانًا واحدًا للتصدير، وذلك تجنبًا لوقوعنا في مشكلات مستقبلية نحن بغنى عنها متذكرًا حروب الناقلات وحروب الخليج الثلاث.
&
التعليقات