&
بيروان بروفانس، كاتب هولّندي مرموق، ولد عام 1940 في العاصمة ألأندونسيّّة جاكارتا. وراهنا هو يعيش في بيت ريفيّ بالقرب من مدينة "ماستريخت" حيث تقرّرت الوحدة ألأوروبيّة. بيته محاط بألأشجار. وهو لا يرى أحدا غير زوجته الجميلة كارين التي تساعده في عمله، وتعمل كلّ ما في وسعها لكي يحافظ على وحدته. وهو يحبّ الحياة، ويقبل على ملذّاتها بشكل جنونيّ. .ويعترف بروفانس أن فترة الطّفولة التي أمضاها في أندونيسيا وسط الطّبيعة الخلاّبة، هي من أفضل الفترات في حياته. وهو يتذكّر جيّدا جدّه الموسيقيّ ذا الشّعر الأبيض والبدلة البيضاء، والذي كان يستهويه أن يجلس إليه ساعات طويلة. ثمّ آنهار هذا العالم الجميل فجأة، وذلك عندما غزا الجيش الياباني أندونيسيا في بدايات الحرب الكونيّة الثانية، مُلقيا بالعائلة الهولنديّة السّعيدة في معسكر للإعتقال. .وهناك أمضى الطّفل الصّغير عامين كاملين صحبة والديه، محاطا بالبنادق، ،والأسلاك الشّائكة. ومتذكّرا هذا المعسكر، كتب بروفانس يقول: ”كان المعسكر يسمّى "تجيدينغ". وكان يشرف عليه قائد عسكريّ يابانيّ معروف بشراسته، وقسوته حتى أنه حكم عليه بالإعدام عام 1946 بسبب جرائم آرتكبها في الحرب. وأنا أتذكّره جيّدا لأنه ضرب أمّي، وركلها بحذائه الثّقيل أكثر من مرّة بينما كنت واقفا بالقرب منها أتابع المشهد المريع".
في السادسة عشرة من عمره، عاد بروفانس إلى هولندا ليواجه أوضاعا معيشيّة سيّئة للغاية. وكان لا يزال تلميذا في الإعداديّة لمّا شرع في الكتابة مقتنعا شديد الإقتناع بأنه سوف يكون كاتبا مرموقا ذات يوم آعتمادا على حَدَس عرّافة أندونيسيّة قالت له بعد ان قرأت كفّه، بإنه سيعيش محاطا بالأوراق، والكتب. وفي عام 1964،أصدر أوّل كتاب، وكان بعنوان "السّكّين في الحلق". ثمّ لم يلبث أن آشتهر وذلك بعد أن أصدر كتابا عنيفا ضدّ الأدب الهولّندي الحديث سمّاه: ”المفتّش الجديد". وهو يقول: ”كنت ساخطا على الأدب الهولّندي لأني وجدتّه رخوا، ومبسّطا، وله سمات آمراة ذات جمال مصطنع. وكان الكتّاب الجدد يقلّدون أسلافهم من الكتّاب الرّديئين. أقزام يقتفون خطى أقزام آخرين. كانوا يخشون أيّ كاتب يرفع صوته عاليا لإدانة الرداءة، والقبح، والكذب. أمّا انا فقد أردتّ أن اكون المدافع الحقيقيّ عن الجمال، وعن الأدب الأصيل". وبسبب نفوره الشديد من مثقّفي المدن الكبيرة، والصّالونات الأدبيّة التي يسمّيها "مأوى الخنازير"، آختار بروفانس الإستقرار في الريف حيث الهدوء، والطبيعة السّاحرة. وهو يقول: "هولندا بلد صغير لا يحتاج أن يكون مكانا للكتابة. والمثقّفون يراقبون جيّدا أقوالهم، وحركاتهم. أمّا أنا فأرفع صوتي عاليا لأجاهر بما أفكر فيه، ورأسي يعلو فوق حقل القمح كما نقول في بلادنا".
ومؤخرا قرأت تحقيقا مثيرا عن كتّاب أمريكييّن آختاروا العيش في الطبيعة المتوحّشة مثلما فعل الشعراء الصّعاليك في العصر الجاهلي. ويعيش هؤلاء في أكواخ خشبيّة من دون كهرباء، ويشربون الشاي بالقرب من الدبب الرماديّة الشرسة، ويقضون فصول الشتاء القاسية من دون آحتكاك بالعالم. ويبدأ التحقيق بوصف هذه المجموعة الصغيرة من الكتاب وهم يحفرون قبرا لصديقهم الذي توفي مُوصيا إيّاهم بأن يتمّ دفنه من دون مراسيم، ومن دون صلوات، ومن دون دموع. وكان حفر القبر في الأرض أمرا عسيرا للغاية. وقد آستمرت عمليّة الحفر وقتا طويلا من دون جدوى. لذلك أخذت العقبان والطيور الجارحة تحلّق فوقهم مهدّدة بالهجوم على جثّة صديقهم ادوار اباي المولود عام 1927. وقد آختار ادوار اباي منذ البداية أن يكون رافضا للحضارة المادية، كارها العيش في المدن الكبيرة. وفي صيف عام1944، آنطلق الى الغرب الأمريكي ومنه لن يعود أبدا. ومن وحي إقامته وسط الطبيعة المتوحشة، ألّف كتابا حمل عنوان "الصحراء المتوحّدة"، وفيه يتغنّى بالمشاهد الطبيعيّة قبل أن تفسدها الطرقات السريعة، وقبل أن يأتيها الباحثون عن إقامة مدن صناعيّة. وكان ادوار اباي يواجه بالسلاح جميع الذين يحاولون الإقتراب منه لإفساد عزلته. وفي عام 1986 آلتحق به كاتب آخر يدعى دوغ بايكوك الذي حارب في فيتنام. وهو يقول: ”مثل الكثيرين قرأت كتاب "الصحراء المتوحدة". وفي ذلك الوقت كنت أعيش في تيكسون في أريزونا. وذات يوم دعاني صديق يدعى بيل أبستلايك، وهو واحد من أفضل كتاب الغرب الأمريكي الى تناول العشاء معه. وكان هناك رجل بلحية داكنة. أخذت سيجارة فأشعلها لي. ولم يكن ذلك الرجل غير ادوار اباي. وفي تلك الليلة أقنعني بأن أرافقه ال الصحراء".
وفي الصحراء، أخذ الصديقان يدمّران كلّ مظاهر الحضارة التي تعترض طريقهما.وكانا يعيشان حياة متوحشة بالمعنى الحقيقي للكلمة. لذا لم تتردّد الشرطة الفيدراليّة في التعامل معهما كما لو انهما ارهابيّان! ويقول بايكوك بإن تجربته في فيتنام عذّبته كثيرا حتى أنه شعر بالعار بسبب جنسيّّه الأمريكيّة!
ومثل ادواراباي وبايكوك آختار بات فروم المولود عام 1958 العيش في الطبيعة المتوحشة. حدث ذلك في نهاية السبعينات من القرن الماضي. وهو يقول: ”من منتصف شهر أكتوبر-تشرين الأول وحتى منتصف يونيو-حزيران كنت مسؤولا عن 2،5 مليون من بيض سمك السلمون الموجود في قاع النهر. وكان عليّ أن أمنع أيّ تشكّل للجليد. وكانت الطريق الأقرب على بعد 40 ميلا. أما الإنسان فقد كان على بعد ستين ميلا. وعلى مدى ثلاثة أشهر لم يكن هناك غير الدببة وأنا".
وكان بات فروم الذي يعتبر من أفضل الكتاب الأمريكيين راهنا قد غادر المسيسيبي حيث كان يعيش ليستقرّ في الغرب. وذات يوم وجد نفسه أمام واد كان لونه بين الأزرق والأخضر.وفي الحين فتن به.وهو يقول :”إن حماية الطبيعة المتوحشة باتت أمرا ضروريّا في الوقت الراهن. فالحضارة المادية شوّهت المدن، وشوّهت الأرياف أيضا.والأماكن التي لم يصبها ضرر هذه الحضارة أصبحت نادرة للغاية في العالم بأسره. لذا لا بدّ من حماية هذه الأماكن لأنها الوحيدة التي تسمح لنا بأن نقف على هشاشة الحياة اليشريّة. وصحيح أنني أناضل من أجل هذا منذ ثلاثين عاما. وصحيح أيضا أنني بدأت أشعر بالتعب. وهناك في الوادي حيث أعيش، أماكن من الصعب الوصول اليها. ونحن سنمنع كلّ من يريد بلوغها بهدف البحث عن الذهب، أو عن أيّ شيء آخر إذ لابدّ من الحفاظ على العالم المتوحش مهما كان الثمن،ومهما كانت المصاعب. ويواصل فروم بات حديثه قائلا: ”دائما أحلم الحلم التالي :أرى نفسي أسير في أرض متوحشة بشكل مطلق تقريبا. فلا طرقات،ولا سكان،ولا أيّ شيء آخر.وأنا أعرف أنه من الناحية الأخرى لن تكون هناك نهاية أبدا.إنّ الطبيعة المتوحشة تمتلك كل ما نحن بحاجة اليه، أي الحكمة.وكلما كانت هناك أماكن بكر فإنه يمكن للإنسان أن يظلّ يمتلك الأمل في البقاء".
والكتابة بعيدا عن المدن كانت تستهوي الشاعر والناقد المرموق إزرا باوند الذي كان يسمّى من قبل أصدقائه ب"وزير الثقافة ألأوروبيّة من دون حقيبة". ويعود ذلك للدور الهائل الذي كان يلعبه في مجال تحريك،وتفعيل الثقافة المذكورة. وكان إزرا باوند يتقن الطبّخ،ويعدّ أثاث بيته بنفسه.ولم يكن يغفل أبدا عن مدّ يد المساعدة لأصدقائه من المبدعين. وذات مرّة بعث بنظّارات طبّيّة إلى جيمس جويس عندما كان هذا ألأخير في مدينة "ترياست" الإيطاليّة. بل أنه جمع مبلغا من المال ساعد صاحب"أوليسيس" لكي يجتاز المصاعب الماديّة التي كان يمرّ بها.وكان إزرا باوند ينصح أصدقاءه بالعيش في الريف بعيدا عن المدن الصّاخبة.”وكان يقول:”المدن الكبيرة مكلفة مادّيا ،وتجبر المبدع على إضاعة وقته الثّمين في المهاترات الفارغة.لذا يظلّ الريف بالنسبة لي المكان المفضِل للتّفكير،والكتابة".وهناك العديد من الكتّاب،والشعراء في أوروبا ،وفي أمريكا آختاروا العيش في ألأرياف،وفي المدن الصغيرة. أمّا في عالمنا العربيّ،فالكتّاب ،والشعراء يخيّرون العيش في المدن،وفي العواصم.وربّما لهذا السبب تكثر المشاحنات،والمعارك بينهم فتتسمّم الحياة الثقافيّة لتصبح خالية،أو شبه خالية من الإبداع الحقيقيّ، ومن القيم النبيلة مثل الصداقة،والمحبّة،والتّضامن وغير ذلك...