إيلاف تفتح الملف (الغامض).. من هم (التكارنة) الجزء الثاني
مواطنون سعوديون امتدادهم خارج الجزيرة العربية

منصور إبراهيم من جدة: تناولت موظفة الاستقبال الشابة الجميلة في أحد فنادق العاصمة التونسية الجواز السعودي من الزائر الواصل لتوه، ولحظة أن همت بتدوين بياناته، استوقفتها كلمة ( تكروني ).
بادرت صاحب الجواز بالسؤال :
أنت سعودي؟!
رد عليها وقد ارتسمت على محياه دهشة ممزوجة بابتسامة غامضة بالإيجاب، وبدا عليه أن لم يرتح لسؤالها. وبحس لماح أدركت موظفة الاستقبال ذلك، وأكملت عملها، ثم ناولته مفتاح غرفته، فمضى نحوها، غير مكترث كثيرا لسؤالها. وبعد استراحة قصيرة هبط ( ي. تكروني ) إلى بهو الفندق، فلفت انتباهه ابتسامة حقيقية ترتسم على محيا موظفة الاستقبال التي استدعته واعتذرت له، موضحة أنها لاحظت أنه تضايق من سؤالها. ثم استرسلت في الحديث، ليفهم منها أنها فقط استغربت من لقبه ( تكروني ) وطلبت منه معلومات عنها.
فراح يحكي لها.
( يوسف التكروني ) هو واحد من آلاف السعوديين – يعيش أغلبهم في منطقة الحجاز - الذين يحملون هذا اللقب. ولكن بالمقابل يبقى هناك الكثيرون الذين لا يعرفون خلفيته، إذ تكتفي الغالبية بمعرفة أن كل فرد ( اسود البشرة ) في السعودية هو ( تكروني ) غالبا.
فما هي خلفية هذا اللقب وحقيقته ؟
يرجع وجود ( التكروريين ) في الجزيرة العربية لأزمنة بعيدة تصل لأكثر من ألف عام. فمع دخول الإسلام لغرب أفريقيا في القرن الحادي عشر الميلادي، أوائل القرن الخامس الهجري وجب الحج على كل من اسلم من أهل تلك البلاد فكانت رحلات الحج أول اتصال طوعي بين العرب وأهل أفريقيا. كمواطنين في الدولة الإسلامية الممتدة من جزيرة جاوة إلى سواحل أفريقيا على بحر الظلمات ( المحيط الأطلسي)، حيث كانت إقامة قُدماء التكروريين في أرض الحرمين أمراً طبيعيا وحقا من حقوق المواطنة لرعايا الإمبراطورية الإسلامية.
يقول سعيد عبدربه التكروني ( 75 عاما) المولود في مكة المكرمة ( بعد أداء فريضة الحج، كان كثير من الحجاج من العالم الإسلامي يختارون الاستقرار والمجاورة في أرض الحجاز على الرغم من قسوة الحياة وشظف العيش وقلة الأمن وقتذاك. ومن يستقر في أرض الحرمين يندمج في المجتمع الحجازي اندماجا تاما فيتأثر به ويؤثر فيه ). ويكمل سعيد عبدربه الذي يعمل في مجال المقاولات في مكة ولديه أبناء وبنات يعملون في السلك العسكري والوظائف المدنية الحكومية، وأحد أحفاده نجم كروي في أحد أندية جدة ( كانت رحلة الحج الهدف الوحيد تقريبا من تواجدِ التكارنة في أرض الحجاز منذ دخول الإسلام لغرب أفريقيا ما بين بداية القرن الحادي عشر الميلادي وحتى بداية القرن العشرين. لكن مع دخول الاستعمار لأراضي غرب أفريقيا واشتداده مابين العشرينات والخمسينات من القرن العشرين، اضطر الكثير منهم للهجرة فرارا بدينهم. كانت أرض الحرمين الوجهة الأمثل رغم اضطراب الأحوال السياسية فيها حينئذٍ).
محاور الحج
وتذكر المصادر التاريخية ثلاثة محاور رئيسة لطرق الحج من غرب أفريقيا لمكة المكرمة. المحور الأول هو محور مدينة تمبكتو ( في مالي حاليا) العاصمة السياسية والعلمية لتلك المناطق. حيث كانت نقطة تجمع رئيسية للقوافل القادمة من الغرب. والمحور الثاني هو مدينة كاتسينا قرب مدينة كانو ( في نيجيريا) وكانت محور تمركز القوافل القادمة من الوسط ومن محيط نهر النيجر. أما المحور الثالث فكان مدينة ميدقوري. تتجمع القوافل من هذه المحاور الثلاثة في جادة رئيسة في مشارف تشاد وتنطلق في رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر عبر أراضي تشاد والسودان لنتقسم القوافل من جديد إلى ثلاث محاور كل منها يسلك طريقا مختلفة بعد قطع وسط السودان.يتجه المحور الأول مباشرة لميناء بور سودان على البحر الأحمر ومنه يستقل الحجاج السفن التي تنقلهم للساحل العربي من البحر الأحمر على موانئ الليث والقنفذة وجدة وبعض الموانئ الصغيرة مثل رابغ. المحور الثاني يتجه جنوبا عبر أراضي السودان الشاسعة نحو أرض الحبشة ثم يعبر الحجاج مضيق باب المندب وصولا للجزيرة العربية في أرض اليمن ليواصلوا الرحلة برا مرة أخرى عبر طريق طويلة إلى مكة المكرمة. أما المحور الثالث فكان يتجه شمالا عبر مصر مارا بسيناء(قبل وبعد حفر قناة السويس) ليصل لفلسطين والقدس. بعد زيارة بيت المقدس، يواصل التكروريون رحلتهم الشاقة الطويلة لأرض الحجاز ليصلوا المدينة المنورة قادمين من الشمال.
ويتذكر عبدربه ما كان يسمعه من والده وجده من قصص وحكايات في تلك العصور البعيدة ووصولا للنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري،فيقول ( قبل أن يمُن الله على الناس بعبد العزيز آل سعود، كانت الجزيرة العربية تُحكم بقانون الغاب. القوي يأكل الضعيف ولا يأمن فيها أحدا مهما كان حتى بين عصبته.... والغريب غريب بمجرد أن يبتعد مسافة يوم عن دياره. ورغم كل ذلك، استطاع الكثير من قُدماء التكروريين حماية أنفسهم وأهليهم عبر أهوال الطريق بالسير في كتل بشرية يصعب مهاجمتها أو اختراقها. لكن الجور لحق ببعضهم ووقع في الرق ظلما وعدوانا على أيدي اللصوص وقطاع الطرق..، أكثر من وقع علهم الظلم كانوا الفقراء والضعفاء من الأطفال والنساء، خاصة من سار منهم على الإقدام في اثر القوافل). ويضيف عبدربه متزيا بالزي الحجازي التقليدي ( من أعجب مفارقات ذلك العصر اختيار قدماء التكروريين الاستقرار والجوار هناك في الوقت الذي هاجرت فيه أعداد من سكان الجزيرة أفرادا أو جماعات لجنوب العراق والشام والسودان والهند بحثا عن المراعي الخصبة أو الرزق والعمل).
ويذكر المؤرخ السعودي محمد حسين زيدان رحمه الله في كتابه "المدينة في العهود الثلاثة" ( أن فخري باشا، قائد قوات العثمانيين في الحجاز، أجلى جميع سكان المدينة المنورة تقريبا للشام وتركيا بالقطار عام 1335هـ في الحادثة المعروفة باسم "سفر بَرلِك" ولم يبق في المدينة إلا التكروريين الذين صبروا على الظروف القاسية والجوع الذي ساد حينها بسبب نقص الغذاء الناتج عن الحرب العالمية الأولى! عمل كثير ممن بقي من التكروريين في المدينة في الجيش العثماني وكانوا ضمن ضباطه وجنوده وكان لهم دور بارز في حفظ الأمن وصيانة ممتلكات الناس والدور الخالية بعد ترحيل أهلها).
ويتضح أن كلمة ( تكارنة ) ما هي إلا تصحيف لكمة ( تكرور ) وهي عامة لكنها لا تشير الألقاب الأخرى التي يحملها مواطنون ( تكارنة ) ومنها فلاتة، وهوساوي، وبرناوي، وبرقاوي.. الخ. لكن من أين جاءت كلمة تكرور؟
في حلقة تالية نتابع.