في هذا الشهر يتغير نظام تقديم الطعام فيها
رمضان يعيد الاهتمام بالتكية الإبراهيمية

الحرم الابراهمي يظهر خلف التكية
أسامة العيسة من الخليل: يخرج محمد الأشهب (55) عاما، كل يوم من منزله مبكرا جدا، حيث تكون شوارع البلدة القديمة في الخليل مغلقة، وتبدو البلدة وكأنها مدينة أشباح مخيفة، مع الوجود العسكري الإسرائيلي المكثف، بالإضافة إلى البؤر الاستيطانية، التي يقطنها اكثر غلاة اليهود تطرفا، من التنظيمات اليهودية التي توصف، حتى إسرائيليا بالإرهابية. ووجهة الأشهب تكون دائما إلى تكية سيدنا إبراهيم الخليل، بالقرب من الحرم الإبراهيمي، المحاط بحواجز إسرائيلية، وبوجود عسكري مكثف. ويشعل الأشهب النار، استعدادا لطهي كميات كبيرة من الطعام، للفقراء والمحتاجين الذين يأخذون بالتوافد بعد ساعات، ويصل في وقت لاحق زملاء الأشهب، الذين يملأهم الشعور بالفخر لقيامهم بما يعتبرونه عملا خيريا ذا أبعاد وطنية ودينية وثقافية.

وفي شهر رمضان يتغير نظام تقديم الطعام في التكية، حيث يبدأ الأشهب وزملاؤه إعداد الطعام وتقديمه في ساعات ما بعد الظهر، ليتمكن المحتاجون من استلام وجباتهم قبل الإفطار. ويقول الأشهب انه يلاحظ بان الإقبال على التكية هذا العام من قبل الناس اكثر من المعتاد، ويعيد ذلك لأسباب اقتصادية، أدت إلى قدوم أناس ربما سمعوا بالتكية لأول مرة.

ويشير الأشهب إلى أن كثيرين يأتون لاستلام وجبات طعام مجانية من التكية، كنوع من التبرك بما يقدم باسم والد الأنبياء إبراهيم الخليل، الذي تحمل التكية اسمه. ومنذ قرون، تقدم الأطعمة مجانا للضيوف وطالبي العلم والرحالة، بجوار الحرم الإبراهيمي الشريف، وحسب ما كتبه معظم المؤرخين العرب والمسلمين، بأن ما عرف بسماط إبراهيم الخليل، حافظ عليه سكان المدينة، حتى في الفترة الصليبية، وكان يقدم لكل زائر ما يحتاجه من طعام.

وكتب الرحالة العرب والمسلمون كثيرا عن ذلك ومن بينهم ابن بطوطة الذي أشاد بالأرز المفلفل وحب الرمان الذي كان يقدم مجانا، والرحالة الفارسي الشهير ناصر خسرو الذي ذكر quot;..ويعطون الضيوف والمسافرين والزائرين الخبز والزيتون. وهناك طواحين كثيرة تديرها البغال والثيران لطحن الدقيق. وبالمضيفة خادمات يخبزن طوال اليوم. ويزن رغيفهم منا واحدا. ويعطى من يصل هناك رغيفا مستديرا وطبقا من العدس المطبوخ بالزيت وزبيبا كل يوم. وهذه عادة بقيت من أيام خليل الرحمن حتى الساعة. وفي بعض الأيام يبلغ عدد المسافرين خمسمئة، فتهيأ لهم الضيافة جميعاquot;.

ويعود تأسيس التكية إلى القرن التاسع الميلادي، من قبل صلاح الدين الأيوبي، استكمالا لما كان يقدم للفقراء وطالبي العلم والحجاج والسائحين الذين يقصدون الحرم الإبراهيمي حيث يوجد ما يعتقد انه ضريح إبراهيم الخليل وأضرحة العائلة الإبراهيمية. والوجبة الرئيسة التي تقدم يوميا هي عبارة عن القمح المجروش، باستثناء يومي الجمعة والاثنين حيث تقدم وجبات الخضار مع اللحمة.

ويقول الأشهب ان أهالي الخير يتبرعون بشكل مستمر للتكية، وان البعض يحرص لان يقدم أجود أنواع اللحوم يومي الجمعة والاثنين، ويشير إلى ان أهل الخير يتسابقون لتقديم التبرعات للتكية، وزاد التنافس بين أهل الخير خصوصا في شهر رمضان المبارك، وان منهم من حرص على حجز دوره قبل حلول الشهر الفضيل. ويشير الأشهب إلى انه حتى لو حدث أي نقص، خصوصا في الأيام العادية، فان دائرة الأوقاف الإسلامية تتكلف بتغطيته.

طباخان يتجهزان لاعداد الطعام
وبسبب الظروف الاقتصادية، رفعت التكية كمية الطعام المطبوخة، عدة أضعاف، ولا يوجد تحديد لعدد المستفيدين مما تقدمه التكية خصوصا في شهر رمضان، إلا انه حسب بعض التقديرات يصل إلى 3 آلاف يوميا، وهو ارتفاع غير مسبوق، يعتقد انه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها الفلسطينيون. ويقتصر دور التكية الان على تقديم الطعام، ولا يفكر أحد في إعادة الدور الثقافي والتعليمي لها، لاسباب عديدة، من بينها فقدانها لمقرها القديم المهم، حيث كانت تشغل بناية تاريخية في محيط الحرم الإبراهيمي الشريف، بجوار ما يعرف بالمسجد الجولي، وكان فيها متسع لاستقبال طلبة العلم وإيوائهم وتقديم الوجبات الثلاث لهم، مع التشجيع والرعاية من الحكام المسلمين الذين أوقفوا أوقافا عليها، ليس فقط في فلسطين وبلاد الشام، ولكن أيضا في مصر، للصرف عليها من ريع هذه الأوقاف.

وكان يتبع لها عدة أفران وطواحين، ومخازن للقمح والشعير، ومرافق أخرى، ويعمل فيها العديد من العمال والعاملات والمشرفين، ما جعلها مؤسسة مهمة لعبت دورا في التاريخ الفلسطيني والإقليمي. ويشعر الأشهب بألم، عندما يتذكر انه تمت إزالة مبنى التكية التاريخي، ومبان مجاورة من قبل السلطات الأردنية في عام 1964، ضمن خطة مثيرة للجدل، لتجميل الحرم الإبراهيمي بإزالة المباني المجاورة له، ولكن ينظر إليها من بعض الاثاريين باعتبارها quot;مجزرة أثريةquot; لم يكن لها مبرر اطلاقا.

وبعد ثلاثة أعوام سقطت الخليل والضفة الغربية في أيدي الاحتلال الإسرائيلي، والان يمكن رؤية حديقة للمستوطنين ومنشآت استيطانية يهودية أخرى تنظم فيها الاحتفالات الصاخبة مكان مبنى التكية. وبعد هدم المبنى التاريخي، نقلت التكية إلى مكان آخر في المدينة، ولكنها لم تعد تحمل العبق القديم نفسه، وفي عام 1983، أعادت دائرة الأوقاف التكية إلى مبنى حديث قريب من الحرم الإبراهيمي، ويفصلها عنه حاجز عسكري، وبنادق الجنود المشرعة بشكل دائم.

ويسرد الأشهب وزملاؤه ما يتعرضون له من مضايقات من الجنود والمستوطنين، ولكنهم يفضلون البقاء في المكان لقربه من الحرم الإبراهيمي، الذي يعطي التكية جزءا من رونقها المفقود. ويقول الأشهب إن كثيرا من الزوار الأجانب يأتون إلى التكية، ومن بينهم مسلمون من جنوب شرق آسيا ودول إسلامية أخرى، يأتون ليروا التكية التي قرأوا عنها، ولكنها لم تعد تلك التكية نفسها.