الهجرة السرية و الطريق إلى الجنة عبر الجحيم

*كل الطرق تؤدي إلى keleti

سليمان بوصوفه من بودابست-غيور-فيينا: (كيليتي) هي محطة القطارات الرئيسة في العاصمة المجرية بودابست. وإليها يصل المهاجرون السريون من الدول العربية خصوصا من دول شمال إفريقيا من مصر إلى موريتانيا كما يصلون من دول أخرى كلبنان وسوريا والعراق، هؤلاء المهاجرون يدخلون عادة بتأشيرات سياحة إلى المجر ثم ينطلقون إلى وجهات أخرى.

لأن للمجر حدودا جنوبية مع كرواتيا ومع رومانيا، فإنها تعتبر قبلة المهاجرين السريين الذين يدخلون عبر تلك الدول التي تصدر مهاجرين عربا وألبانا وأتراكا وقبارصة وأفارقة وغيرهم.

ومن (كيليتي) تنطلق القطارات إلى المدن المحلية والأوروبية. ومنها يمكن للمهاجر السري أن يصل إلى الأرض الحلم. أوروبا القديمة..فيينا، برلين، ميونيخ، وغيرها من المدن التي يقصدها الهاربون مما يسمونه جحيم أوطانهم حيث لا عمل ولا مستقبل ولا عدالة !

وصلْت المحطة قادما من العاصمة النمساوية فيينا حيث سمعت أساطير وقصصا عن تلك المغامرات التي يخوضها المهاجرون السريون قبل أن يصلوا ( برّ الأمان) وأغلب من تحدثت إليهم في فيينا وفي برلين من الشباب العرب الذين استطاعوا أن يبدؤوا حياة جديدة في بلاد الغرب كانوا قد انطلقوا من هذه المحطة.تسلّحْت بمعلومات كافية عن مغامراتهم وتقمصت شخصية المهاجر السري الذي وصل لتوه من المطار ولبسْت لباس الجوع والخوف و العطش ثم بدأت التحقيق.

*كل شيء قابل للتفاوض

المحطة تبدو منهكة! قطارات قديمة ترجع إلى العهد الشيوعي بالرغم من أن المجر انضمت إلى النادي الأوروبي، ووجوه منتظرة تتفرس هوية الواصلين، عجائز يحملن لافتات كتب عليها room، zimmer بمعنى غرفة،باللغتين الإنجليزية والألمانية، وصبيان حفاة يتوسلون النقود، وبين الفينة والأخرى ألمح شابا واقفا يتابع الحركة ولا يتحرك! عيونه تتكلم ولا يتكلم! اتجهت صوب مكتب الصرافة لأغير اليورو إلى العملة المحلية فسمعت صوتا من ورائي يقول ( عاوز إيه ؟ ناقصك حاجة؟) التفت فوجدت شابا مصريا ضخما فتح معطفه فأخرج حزمة من الأوراق المالية بضخامة رقبته ! أخبرته بأنني أريد تغيير العملة فقال ( أومال إحنا هنا بنعمل إيه؟ عاوز تغير دولار وإلا اليورو؟) قلت : اليورو فأخرج آلته الحاسبة التي تبدو في يده وكأنها علبة كبريت صغيرة وأشار إلى مكتب الصرافة ليخبرني أن الصرف اليوم 2فاصل 45، فأنهى العملية وناولته اليورو فأعطاني حزمة نقدية كثرت عليها الأصفار! ارتبكت وخشيت أن تكون النقود مزورة، فقال لا تخف يابنيّ ( محسوبك؛ حلمي) لا يُظلم عنده أحدا!!!

كان حلمي يترشف كأس القهوة في المقهى بالمحطة وعيونه على الواصلين الجدد، يبدو أنه يشتغل على المكشوف ولا يهاب الشرطة، قال إنه يُغير العملة في المجر منذ أكثر من عشرين سنة، وتعلم الكثير في هذا البلد، ومن بين الدروس التي تعلمها أن كل موظف هنا قابل للإرشاء، فيمكنك أن تخرج من السجن بحفنة من الدولارات !

سألته عن إمكانية تهريبي إلى بلاد الغرب فقال هذا ليس اختصاصه فنصحني بالذهاب إلى البتزيريا خارج المحطة والبحث عن يزيد الجزائري فهو ملك تهريب البشر.

*المبيت في الحدائق العامة


سألت شبابا عربا ndash; ما أكثرهم تواجدا حول المحطة- عن يزيد فاتصلوا به وماهي إلا دقائق حتى ظهر مع فتاة مجرية تغطي جسدَها قطعةُ قماش، عرفت فيما بعد أنها زوجته الوفية،تعرفت عليه في أيامه السوداء، قبل أن يتزوجا ويحصل على الإقامة ثم الجنسية.

تلقيْت من يزيد وابلا من الأسئلة حول طريقة دخولي ومكان إقامتي وعن إمكاناتي المادية وعن وجهتي المفضلة؟ فطلبت منه أن يهربني إلى النمسا في أقرب وقت لأنني قليل المال والحيلة. اقترح عليّ أن أبيت في بودابست ليأخذني غدا صباحا إلى مدينة gyor

القريبة من الحدود النمساوية حيث يجمع شمل المهاجرين السريين في بيت هناك ويقوم بعملية تهريبهم مرة واحدة عن طريق معبر sopron. سألته عن المبيت فقال هناك الشارع أو الحدائق العامة فالجو معتدل وليس قارسا وهناك المسجد وهناك الغرف في الجامعات بحوالي سبعة يورو كما أن هناك دور الشباب بعشرة يورو، والاختيار لي!

اتفق معي على أن نلتقي على الثامنة صباحا في نفس المكان وألح عليّ أن أثبت له أنه بإمكاني دفع مبلغ خمسمئة يورو ثمن تهريب الرأس الواحد من الماشية عفوا من البشر!

طمأنته على كل شيئ فودعني وأكملت رحلتي الاستطلاعية مع الشابّين الذين دلاني على ملك التهريب أحدهما جزائري والآخر فلسطيني، لقد تعرفا على بعض في مركز طلب اللجوء قبل عام ونصف، وسرعان ما حذراني من أن يزيد يستغل جهل الشباب وعدم معرفتهم باللغة وبالبلد وحاجتهم إلى الهجرة فيأخذهم إلى الحدود المجرية النمساوية ويتركهم عرضة لشرطة الحدود! ما يؤدي إلى سجنهم وإبعادهم إلى بلدانهم.

سألتهما عن الحل فحدثاني عن ( الطبشور) لكن من هو الطّبشور ؟ إنه كبيرهم الذي علمهم التهريب! ولأن الطبشور قديم في الحرفة فإنه يدفع رشاوى للبوليس ويأخذك مكرما معززا بسيارته الفخمة إلى النمسا ثم تدفع له ألف يورو.

قلت: إن المبلغ كبير، قالا هذا أضمن من أن تقبع في السجن ستة أشهر ثم تطلب اللجوء أو تُرحّل إلى بلدك فتعيد الكرة من جديد وتدفع آلاف الدولارات، عرفت من سمير وطارق أن عصابات التهريب تبتز المهاجرين أشهرا قبل تهريبهم فمنهم من له الحظ في العبور ومنهم من يهدر أعواما في تكرار التجربة مثلما حصل معهما، حيث وفي كل مرة يحاولان جمع الأموال والحصول على معلومات أدق.

تساءلت : لكنهما من دون عمل، فمن أين الأموال؟ تذكرت ما قاله لي أحد المهاجرين السريين الذين أصبح حلاقا في فيينا: الطرق غير الشرعية كثيرة جدا وإحداها تجريد المهاجرين الجدد من أموالهم بعد عزمهم للمبيت ليلة في سبيل الله!

في رحلاته بين بودابست و(غيور) يفضل يزيد أن تكون زوجته الشقراء إلى جانبه في السيارة لإبعاد الشبهات عن نشاطاته. ركبت معهما في المقعد الخلفي ووجدت بجانبي شابا عراقيا وصل لتوه تهريبا من تركيا. بعد ساعتين من الرحلة اجتزنا مدينة غيور في طريق قديمة ووصلنا إلى مزرعة يتوسطها كوخ مهجور فخرج إلينا ثلاثة شبان طال بهم الانتظار. أخبرنا يزيد بأننا سنعبر الحدود ليلا فأشار إلى جبل قريب : هذه هي النمسا، إنها مسافة ثلاثة ساعات على الأقدام ثم بدأ في سرد التعليمات :

على كل واحد منكم أن يحرق جواز سفره الأصلي كي لا تضع الشرطة النمساوية يدها عليه، أو يرسله عبر البريد المضمون إلى زميل له في بلاد الغرب أو يتركه عندي لأرسله له لاحقا ( ليبيعه).

سأقوم بمهمة مصاحبتكم حتى اجتياز شرطة الحدود المجرية عندها أستلم الأموال، إذا حاول أحدكم التهرب من الدفع، سأُبلّغ عنه، فلدي علاقات كبيرة مع رجال شرطة الحدود. بعدها، إما تنجحون في العبور وإما ستعتقلكم الشرطة النمساوية لتُحقق معكم، لا تصرحوا بأي معلومة صحيحة في التحقيقات واطلبوا اللجوء السياسي فورا، غالبا عندما تُعتقلون تُعطى لكم أوراق ثبوتية لترك البلد في غضون ثلاثة أيام وهذا ما سيُمكّنم من الهرب، أما إذا نجحتم في العبور فستجدون كنيسة كبيرة في الجانب الآخر توفر لكم المبيت والأكل.

رائحة الكوخ كريهة، بقايا قطع من الخبر وعلب من الحليب وزجاجات من الكوكا متناثرة على الأرض، وجوه الشبان منهكة، عيونهم حمراء خائرة منهم من عبر من البوسنة ومنهم من خرج لتوه من السجن، ومنهم من وصل عبر طائرة من بلد عربي، لكل واحد تجربة مريرة مع المهربين؛ منهم من فقد عشرة كيلوغرامات في شهر واحد، يلعنون اللاعدالة التي حولتهم إلى متسولين ومطارَدين، ويحلمون بغد أفضل في ديار الغرب، والكل يحتفظ برقم هاتف أو عنوان لصديق له في فيينا أو برلين أو باريس ولندن،عنوان لصديق خرج من الجحيم حسب تعبيرهم، وعزاؤهم: أنتم السابقون ونحن اللاحقون.

طلبت من يزيد أن يأخذني بسيارته إلى وسط المدينة لأرسل جواز سفري عبر البريد، ودّعته فاستقليت أول قطار متجه إلى فيينا.