رشيد الصوفي مندهوك: عندما دخلت الصحون اللاقطة (الستلايت) لأول مرة إلى قرية كيسته بمحافظة دهوك، بأقصى شمال العراق، لم يعد أهالي القرية يعقدون جلسات السمر التي كانت تجمعهم في أحد بيوت القرية، في أيام العيد والمناسبات الأخرى، ويفضلون قضاء الليالي بمتابعة المسلسلات والبرامج الترفيهية، التي يوفرها لهم التلفزيون ويتجول بهم حول العالم بلمسة بسيطة لجهاز التحكم.

الهاتف الجوال بدلا عن الزيارات

وبدخول الهواتف النقالة بدأ ابناء القرى يعوضون زيارات التهنئة بمكالمة من الجهاز السحري الذي يختصر الوقت ويوفر التواصل مع اكبر عدد من الأصدقاء والأقارب.

ومع أن التكنولوجيا قدمت خدمات مريحة لأهالي قرية كيسته بقضاء العمادية في محافظة دهوك الشمالية، إلا أنها أسهمت في تراجع طقوس العيد التي تحتفظ بها ذاكرة أبناؤها، تلك الطقوس الحافلة باالتواصل الاجتماعي والألفة، ابتداء من زيارات التهنئة وأطباق الحلويات الكردية الشهيرة، إلى مهرجانات الألعاب الفلكلورية التي يحييها الشباب لساعات متأخرة من الليل.

فرصة للتصالح على وليمة العيد

يستذكر حسين محمود عبد الحميد 73 سنة، وهو أحد أبناء قرية كيسته، العيد أيام زمان ويقول إن quot;قرى المنطقة كانت تتحول في الأعياد والمناسبات الدينية، إلى احتفال اجتماعي وفرصة للتسامح وتقوية أواصر المحبة بين الناسquot;.

ويضيف عبد الحميد في حديثه لـquot; نيوزماتيكquot; إن quot;مراسم العيد كانت تبدأ بوقت مبكر من الصباح، وكان الرجال يتوجهون إلى المسجد لأداء صلاة العيد، وبعدها يبدأ الجميع بتقديم التهاني لبعضهم، وغالباً ما يتم التصالح بين الأشخاص المتخاصمين بهذه المناسبةquot;.

ويشير عبد الحميد إلى أن quot;من العادات المعروفة آنذاك، هو أن يقيم أحد وجهاء القرية، مأدبة الفطور على شرف الأهالي، ويدعوا الجميع لبيته، وبعدها يقوم رجال القرية وفي مقدمتهم رجل الدين وعدد من الوجهاء بزيارة كافة العائلات في القرية وتقديم التهاني لهم بمناسبة العيدquot;.

ويتابع القول quot;أما شباب القرية فيبدؤون بممارسة الألعاب الشعبية والفلكلورية المرتبطة بالعيد، والتي كانت تستمر حتى المساء، وفي الليل يجتمع الرجال والنساء في إحدى البيوت، وتبدأ جلسات السمر والأغاني لساعات متأخرة من الليلquot;.

ويصف عبد الحميد أيام العيد سابقا في القرى بأنها quot;كانت أشبه بمهرجانات اجتماعيةquot;، ويستدرك القول إن quot;هذه التقاليد والأعراف الاجتماعية تراجعت بشكل كبير في القرى والأرياف، مما افقد العيد نكهته وطعمه الخاصquot;.

أما السيدة سيفي عمر 54 سنة فتقول إن quot;أهالي القرى كانوا لا يعتمدون كلياً على السوق لتلبية حاجات العيد، مثلما هو الحال الآن، إذ أن تكاليف العيد كانت تشكل عبئا ماليا كبيرا على العائلةquot;.

النساء في العيد أيام زمان.. الكليجة والملابس الزاهية

وتضيف سيفي في حديثها لـquot; نيوزماتيكquot; إن quot;النساء كن يصنعن معظم المأكولات والحلويات التي تقدم للمهنئين بأنفسهن في المنازل، مثل التين المجفف، والجوز، اللوز، والزبيب ( العنب المجفف) وقمر الدين، وحلاوة الفواكه، وأنواع المأكولات الأخرى مثل، قديد، والقلي، واللبنية، بالإضافة إلى الكليجةquot;.

والكليجة هي إحدى المعجنات المرتبطة بالعيد لدى الأسر العراقية، ولا يكاد يخلو منها بيت عراقي من الشمال إلى الجنوب، وهي عبارة عن عجينة محشوة بأنواع من السمسم وجوز الهند والتمر، توضع في قوالب صغيرة وتخبز في الفرن، وتصنع عادة في البيوت، وأحيانا تشترك بإعدادها أكثر من عائلة، حيث يجتمع الجيران لإعداد كميات منها في طقس اجتماعي بهيج.

وتشير السيدة سيفي إلى أن quot;النساء والفتيات أيضا كن يتمتعن بأيام العيد، وكن يتجملن بالأزياء والألبسة الزاهية الملونة، التي تتميز بها نساء كردستان عن باقي محافظات العراق، ويتبادلن الزيارات ويقمن جلسات السمر في ليالي العيدquot;، وتستدرك quot;لكن كل شيء تغير، وغابت التقاليد والعادات التي كانت أجمل ما يتميز به العيد أيام زمانquot;.

التكنلوجيا غيبت التقاليد

ويعتقد صبحي كيستي 30 سنة، أن quot;التكنولوجيا غيرت الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية، وبفضلها انحسرت إلى حد كبير الفجوة بين المجتمع القروي والمدنيquot;.

ويوضح كيستي لـquot;نيوزماتيكquot; أن quot;القنوات الفضائية والهواتف الجوالة أخذت حيزاً كبيراً من اهتمام المجتمع الريفي، وباتت هذه الأجهزة الحديثة رفيقا دائما لكل أهالي القرية، وبديلاً عن الحفلات وليالي السمر التقليديةquot; ويرى أن quot;التكنولوجيا أثرت بشكل إيجابي على تغير النمط التقليدي لأهالي القرى،على الرغم إلغائها العديد من التقاليد والأعرافquot;.

بينما يرى رشيد بريفكي 50 سنة أن quot;الحفاظ على العادات والتقاليد، أمر مهم جدا لتوطيد العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفرادquot; ويضيف أن quot;المجتمع الريفي يواجه مخاطر افتقاد خصوصيته، ومن الضروري الاهتمام بتلك الخصوصيات كي لا تفقد الحياة القروية نكهتهاquot;.

التكنلوجيا أسهمت في زيادة التواصل

ويختلف الباحث الاجتماعي بيار بافي مع بريفكي في تشخيص أهمية التكنولوجيا على حياة أهالي قرية كيسته، ويقول إن quot;رقعة العلاقات الاجتماعية أخذت بالاتساع، أكثر من الماضي بسبب تزايد السكان، ووصول التكنولوجيا بسهولة إلى كافة المناطقquot;.

ويستدرك لـquot;نيوزماتيكquot;، quot;لكن العلاقات الاجتماعية تغيرت إلى حد كبير باتجاه المصالح والمنافع المتبادلة، ولم تعد لصلات القرابة ذلك التأثير الذي كان موجوداً في العلاقات الاجتماعية قبل عشرات السنين، بسبب التغير الاقتصادي والتكنولوجي، وتغير نمط الحياة وفق متطلبات العصرquot;.

ويشير بافي إلى أهمية quot;إحياء تلك العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت تمارس في الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية من خلال إقامة مهرجانات خاصة بهذه المناسبات ليطلع جيل الشباب على المورث الاجتماعي للقريةquot;.

ويرى بعض سكان القرى أن الترحيل والتهجير الذي تعرض له عدد من القرى الكردية بشكل قسري، في ثمانينات القرن الماضي من قبل النظام العراقي السابق، أسهم هو الآخر في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي لأهالي تلك القرى، وفقدان للكثير من عاداتها وتقاليدها.