متخيل روائي للندنوزها حديد تربط الحاضر بالماضي

صلاح حسن من لندن: من يزور لندن للمرة الأولى عليه ان يتخلص أولا من متاهة مطار هيثرو الجبار ، فالخروج من هذه المتاهة هو بداية الطريق للتعرف على هذه المدينة الشاسعة والغامضة والمدهشة والقاسية في الوقت نفسه . وعلى المرء أن يتسلح بكلمة quot; سوري quot; لأنه سيجد الجميع يستخدمونها في مناسبات كثيرة وفي كل الأماكن ، وصدق من قال إن الانكليز امة متأسفة.


افضل وسيلة للتنقل داخل لندن هو المترو ، لان الازدحام في لندن رهيب ويثير الأعصاب ، خصوصا وان شوارع لندن ضيقة والسيارات تسير فيها بالاتجاه المعاكس ( انظر إلى اليسار ، انظر إلى اليمين ) وهي عبارة تجدها في كل شارع عريضا كان أم ضيقا . يقصد مدينة لندن يوميا زوار من كل أنحاء العالم ، فيهم السائح وفيهم الطالب القادم للدراسة وفيهم المريض الذي جاء يطلب العلاج وفيهم الغريب الذي جاء يبحث عن عمل وهم كثر ومن كل لون . لذلك يطلق على مدينة لندن بالمدينة الكوسموبيليتية بامتياز لان فيها أناسا من أصقاع الأرض كلها يشكل الهنود والعرب والسود نسبة كبيرة من هذا الخليط العجيب.

توفر لندن لزائرها كل ما يطلبه ، فهي عبارة عن مركز هائل للخبرات والمواهب والورش والصرعات في كافة المجالات السياسية والثقافية والفنية والعلمية . فعلى الصعيد العلمي توجد في لندن اكبر الجامعات وأشهرها في العالم اجمع ، وعلى الصعيد الفني فيها أشهر المسارح واكبر المتاحف ، وعلى الصعيد السياسي تعد لندن أكثر المدن احتراما للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان . وابسط مثال على ذلك هو إن المواطن البريطاني عندما يرى شرطيا في الشارع يشعر حقا بالأمان والطمأنينة رغم إن الشرطة البريطانية يحًرم عليها حمل الأسلحة في الشوارع لأنها تفزع المواطن.!!

كل جديد ينطلق من هنا

يعرف عن المواطن الانكليزي انه شديد الأدب ويحرص على أن يكون سلوكه في منتهى الشفافية . ولكن غير المعروف عن هذا المواطن انه شديد الجرأة ومجرب من الطراز الأول أيضا . لهذا تنطلق من لندن عادة كل صرعات الموضة وتنتشر فورا في أنحاء العالم ، ومن يتجول في شوارعها الرئيسية سيشاهد الصبايا وهن يرتدين كل ما هو جديد وغريب ومثير أيضا . ولا يقتصر ذلك على الأزياء وحدها بل يتجاوز ذلك إلى الفن والسياسة والاقتصاد والموسيقى بحيث تحولت هذه الصرعات إلى قيم مجتمعية ومدينية تجترحها هذه المدينة دون غيرها من المدن المؤثرة في التاريخ .

ثراء فاحش وفقر مدقع

تدخل في خزينة لندن كل يوم ملايين الجنيهات الإسترلينية ولا يخرج إلا القليل منها لضرورات قاسية تفرضها المصالح لا غير . وتكاد هذه الخزينة أن تنفجر بسبب تدفق الأموال الكثيرة ، فالمعروف عن البريطانيين أنهم لا يقدمون خدماتهم إلا إلى دافعي الضرائب الكبار . أما الناس الذين يعيشون على هذه الضرائب فالخدمات تصلهم متأخرة جدا وقد لا تصل أبدا . الأمر المحير الأخر إن الترميم وهو ضرورة ملحة في كل مدينة فهو غير موجود في أجندة البريطانيين والتبرير الذي يطرحونه أصبح خدعة كبيرة quot; الضغط quot; . لقد فكروا ذات يوم أن يغيروا شبكة المترو ، وعندما وجدوا إن ذلك يكلف ميزانية المدينة عشرات المليارات وبعض السنوات تناسوا الأمر بسرعة وكأنه مزحة ثقيلة لا أكثر.


يعيش في لندن أكثر من خمسة عشر مليون نسمة ، ربع هذا العدد من الأجانب واغلبهم من الفقراء . ففي الشارع الذي يلي شارع اجور رود أو شارع العرب كما يسميه العرب أنفسهم تبدأ المنطقة الرمادية التي يسكنها غالبية من الجامايكيين والصوماليين والعراقيين الذين انتقلوا حديثا إلى لندن . في هذه المنطقة ذات الشوارع القذرة تنعدم الخدمات تماما لان سكانها من الفقراء الذين لا يستطيعون دفع أجور هذه الخدمات برغم إن اغلبها مجاني توفره الحكومة . ولا يرى العابر هناك غير سيارات الشرطة وصفاراتها التي لا تنقطع لحظة واحدة . أما الفنادق الرخيصة في هذه المنطقة فأنها لا تصلح كزريبة للحيوانات ولكن الطلاب الفقراء مضطرون للسكن فيها وليس لديهم حلول أخرى . في أماكن أخرى من لندن وهي قريبة من المركز قمت بزيارة احد الأصدقاء الذي شرح لي معاناته من انعدام الخدمات رغم ضرورتها القصوى . ففي غرفة نومه تعطل جهاز التدفئة وبدأ الماء يتسرب إلى داخلها . وحين حاول الاتصال بالبلدية قالوا له لدينا ضغوط كبيرة وعليك أن تنتظر ثمانية أشهر ؟؟

لندن مدينة قاسية

موظفو لندن يخرجون إلى دوائرهم في الظلام ويعودون إلى منازلهم في الظلام . ذلك إن عليهم إن يخرجوا باكرا وان يعودوا في نهاية الدوام حيث يكون الظلام قد حلً بحيث ينتهي يومهم دون إن يستطيعوا رؤية النهار الغائم عادة . يفقد هؤلاء الموظفون الكثير من ساعات اليوم في التنقل بين المنزل ومكان العمل ويسبب ذلك ضغطا نفسيا كبيرا على السكان ، لذلك يسرقون من ساعات الليل ساعة أو ساعتين ليمارسوا الرياضة من اجل التنفيس عن هذه الضغوط التي يؤدي تراكمها إلى الانفجار . لذلك فأن لندن مدينة قاسية إذا لم يستطع الإنسان التأقلم مع ضغوطها وازدحامها المقيت ، ولكنها للعابر مدينة الأحلام والنجوم والذكريات الجميلة .

لندن مدينة لا مرئية

في كل مرة ازور فيها لندن اشعر إن المدينة قد تغيرت كثيرا ، وفي واقع الحال إن لندن لا تتغير إلا ببطء شديد لأسباب تتعلق بالطريقة التي يفكر بها الانكليز ومفهومهم عن المكان والإرث . هذه المدينة تبدو لي مكانا متخيلا أكثر منها مدينة قائمة على الأرض . لا استطيع أن أتخلص من الإرث التاريخي والأدبي لهذه المدينة، لذلك انظر إليها كما لو أنها مدينة في رواية تاريخية قائمة في مكان ما وليس في الإمكان الوصول إليها . الطريقة الوحيدة لملامسة حدود هذه المدينة تتحقق من خلال الأدب الذي أنجزه عباقرتها في الشعر والمسرح تحديدا . شكسبير في مأساوياته واليوت في الأرض الخراب وجريمة قتل في الكاتدرائية كأمثلة مبسطة للغاية . كاتدرائية اليوت أصبحت ألان ترتبط بمعمل السكر المهجور الذي تحول إلى اكبر متحف للفن الحديث في لندن عن طريق جسر نحيل صممته العراقية البارعة زها حديد ولكن الانكليز بطبعهم السيئ المهيمن بدلا من أن يضعوا اسمها على الجسر وضعوا اسم المهندس الانكليزي الذي نفذه . ليتهم اقتدوا بوزير الثقافة الفرنسي الذي كرم السيدة العظيمة فيروز بوسام الفرسان عندما قال : quot; ألان دخل العرب إلى فرنسا quot; .

جسر زها حديد التجريدي

المتغير المرئي الوحيد الذي بدا لي انه غيًر شكل المدينة هو هذا الجسر الذي يبدو كغصن رقيق يستلقي على ضفتي نهر التايمز العملاق ، جسر لا يدعي أية أبهة ، ومن دلالات اختزالاته التجريدية المعمارية النادرة انه يتمدد على دعامتين ضئيلتين قد تطيح بهما أية ريح عابرة كما يبدو من النظرة الأولى . غير انه ألان يربط التاريخ الفيكتوري بالحاضر الرأسمالي البشع ويصل جزءي المدينة اللذين يبدوان بعيدين عن بعضهما أكثر من أي وقت مضى . على ضفة التايمز أيضا يبدو بيت شكسبير الذي رمم وافتتح أمام الجمهور تحت ظل بناية مكتب عمدة لندن الحديثة بزجاجها السميك الكثير كحاضنة رمزية وعتبة ابستملوجية أكثر من كونه مكانا تاريخيا.


وليس بعيدا عن ذلك البيت متحف الفن الحديث الذي يضم الكثير من أعمال عباقرة القرن التاسع عشر والقرن العشرين من أمثال بيكاسو ومونيه وكاندنسكي وجايكومتي وسلفادور دالي والكثير من الأسماء الجديدة التي يصعب حصرها هنا . يتيح هذا المتحف مرة واحدة في الشهر فرصة لفنان من أي مكان في العالم إن يعرض عملا واحدا كبيرا في صالته الأرضية بغض النظر عن المادة المستخدمة في العمل . وكان هناك عمل لفنان روسي يمثل شريانا ضخما منفذا بمادة البلاستك الشفافة .

حضارات محنطة، حضارات تنمو

يعرف الانكليز الذين تمتلئ خزائنهم بالمال أنهم يجردون الزوار القادمين إلى مدينتهم من الكثير من النقود ، لذلك جعلوا الدخول إلى المتاحف مجانا على العكس من الكثير من المدن الأوروبية مثل عدالة الشاعر بالذنب . يندر ان يصل امرؤ إلى لندن دون أن يزور المتحف البريطاني الذي يضم بين طوابقه تراث اكبر وأقدم الحضارات على الأرض ، ابتداء من الحضارة الرافدينية مرورا بالحضارة المصرية ثم الإغريقية نزولا في التاريخ . في كل مرة ازور فيها هذا المتحف ومن الخطوة الأولى داخل حدوده تنتابني حالة من الانبهار تفقدني رؤيتي النقدية وتصيبني حالة من الشعور بالغضب افقد معها حياديتي وطبيعتي الهادئة . لكنني في هذه المرة قررت أن أتخلى عن أي شيء يربطني بالتاريخ والجغرافيا والحس الوطني والذاكرة والانتماء من اجل الحصول على المتعة الفنية لا أكثر.


أول ما يطالعه الزائر في المتحف ، الثور الآشوري ذا الأرجل الخمس مع رأس بشري دلالة احتفاء الآشوريين بالعقل والمعرفة كعنصر أساسي قامت عليه هذه الحضارة . ومع تتبع السهم الذي فرضه المتحف نصل إلى معلقات هي رليفات بارزة برع الفنان الرافديني في الحفر على الحجر ودوًن فوقها أفكاره التي بدت سلسلة شعرية وحكاية رمزية طويلة تخترمها بين جدار وأخر مفقودات عزيزة برغم أن فقدانها لا يؤثر في السياق العام لهذه المعلقات . ومن خلال رؤية معمقة تبدو الحركة واضحة في القصة المنحوتة ولا مجال لاكتمالها لأنها جزء من المنجز العام الذي يعيش ديمومته الخاصة . على العكس من الأيقونات المصرية والإغريقية التي تبدو كاملة ولا مجال للإضافة فيها مما يجعلها جامدة بوصفها تماثيل لا أكثر كنهاية غير قابلة للإضافة . بمعنى أخر أنها نهاية مغلقة وأنها بمثابة واقعة لا تستطيع أن تجتاز نفسها.

سوهو ابتكار كولون ولسن

في شارع اوكسفورد العريق حيث الأكاديمية الملكية للفنون بطرازها الروماني ورموزها الذين توزعوا على جدرانها العالية بهيئاتهم وحجومهم البشرية صدمت بوجود عمل فني عملاق لفنان انكليزي شاب يمثل أحداث صدمة 11 سبتمبر . يظهر في هذا العمل البرجان وهما آيلان إلى السقوط وقد نفذ بطريقة وحشية جريئة للغاية ومن مادتي الاسمنت غير المشذب مع صفائح حديدية مضغوطة على شكل مكعبات كونكريتية فوق بعضها البعض . العمل بارتفاع عشرة أمتار ويوحي للمشاهد انه سيسقط بعد قليل ، غير انه منفذ بطريقة رياضية مدروسة لا تقبل أية مجازفة . عرض العمل الكبير بهذه الطريقة غير المسبوقة وفي هذا المكان بالذات يشكل صدمة حقيقية للمشاهد ، تعيده فورا إلى اللحظة التي جرى فيها تفجير البرجين والكابوس الذي رافقهما . انه نتاج صدمة وحجمه الضخم إلى هذه الدرجة يعبر عن هول الصدمة في ذاكرة صانعه ومتلقيه.

الامير الهولندي

ليس بعيدا عن الأكاديمية الملكية للفنون كان حي quot; سوهو quot; ، ومن يقارن المكان في رواية كولون ولسن quot; ضياع في سوهو quot; والمكان ألان يصاب بالدهشة . فالغانيات توارين خلف جدران خشبية سميكة وفسحن المجال أمام باعة الفواكه والخضروات الذين انتشروا على جانبي أزقته الضيقة وغير ذلك لا شيء يذكر . انه المتخيل الروائي نفسه ، المكان الذي يتحقق في داخل العملية الأدبية ويستمد بعده وقيمته الرمزية منه.
في طريق العودة إلى هولندا وقفت في الطابور بانتظار الصعود إلى الطائرة وفوجئت بالأمير الهولندي قسطنطين يقف إلى جواري في الطابور وهو يتكئ على عكاز بلا خدم ولا حشم . جلس هو في المقعد الثاني كأي مسافر عادي وجلست في المقعد الرابع أفكر quot; ماذا يفعل السيد الأمير في هذه الرحلة الرخيصة quot; ؟؟