طقوسه عامرة ومواهبه استثنائية
رمضان العراقي ينثر الأمل على الناس
عبد الجبار العتابي من بغداد:هاهو رمضان يطل علينا من بين الشهور، ها هو.. يعود مجدداً حاملاً اماله واشواقه لينثرها على الناس في كل مكان، الناس الذين يفتحون اذرعهم وقلوبهم لاستقبالها بحميمية مع اول بزوغ لهلاله على صفحة السماء، ومع اول ارتفاع للآذان فيه، ولسان حالهم يردد قول الشاعر: (جاء الصيام فجاء الخير أجمعه / فالنفس تدأب في قول وفي عمل ).
ورمضان العراقي له طقوسه ومواهبه الاستثنائية، له وجهه المعبر بملامحه وتقاسيمه غير العادية، له لسانه المضمخ بعطر الحكمة والمحبة، له جبينه العالي، له شجنه ايضا، انه يأتي كل عام متعبا، تشعر ان ثمة غبار على هندامه، وثمة احزان شفيفة ترتسم على سيمائه، منذ سنوات طويلة وهو يأتي هكذا، لكنه حين يصل، ينفض عنه ما علق به ويبتسم وهو يرى الناس يستقبلونه بالمحبة والترحاب، يأتي ليعلن العديد من الاشياء وكما قلت ينثر الامل على قلوب الناس ويزرع التفاؤل على عتبات ايامهم، رمضان العراقي..، ينشر استذكاراته اينما يحل، يستعيد ماكان عليه في سنواته البغدادية البعيدة خاصة والعراقية عامة، يأتي ليربت على الاكتاف وهو يحس بأرهاقها وجهدها المبذول، ويغني اطيب اغنيات حضوره وبهائه، والعراقيون اعتزازا به واحتراما لمقدمه الكريم يستحضرون طقوسه كاملة، يبدأون قبل اسبوعين منه على الاقل بتوفير احتياجاته، تكون طريقهم الى الاسواق سالكة لاسيما سوق الشورجة الشهير في بغداد، الذي يزخر بالبضائع على اختلاف اصنافها وبأسعار طالما تكون اقل من الاسواق الاخرى، لذلك يزدحم السوق خلال ساعات النهار، وتمتليء البيوت بحاجات الشهر بأنتظار ان يتم الاعلان عن موعد الصيام ليبدأ الاعداد لـ (السحور) اولا، حيث بعده يبدأ نهار الصوم الاول، في الشورجة.. كنت هناك وشاهدت الحشود من الناس وهي تزدحم من اجل شراء مستلزمات رمضان، انه امر لابد منه، تقليد بغدادي يسعى اليه الجميع، حين تتحول الشورجة وجهة المتبضعين، كل من تسأله سيقول لك لازمة وهي: رمضان كريم.. على الجميع، وان شاء الله يكون شهر خير وبركة وسلام لنا نحن العراقيين، ثم يجيبك بعدها: لابد من الشورجة للتبضع لرمضان ففيها كل ما نحتاجه، من العدس والشعرية والتوابل الى التمور المطعمة بالجوز واللوز الى (سوالف ) البرياني و (الدولمة) الى انواع العصائر والشرابت (النومي بصرى / على الاخص)، هذا حال مشهود في الشورجة على الرغم من الزحام في الصيف اللاهب الذي يرسم تعبه على الاجساد، ولكن مع كل هذا هناك شكوى دائمة، حيث مع اقتراب شهر رمضان تتصاعد الاسعار، فتغدو هي وحرارة الجو سواء، اي الاثنتان ساخنتان، وهذه الحالة تحدث في كل عام قبل مقدم رمضان، لذلك هناك الكثيرون يتبضعون قبل رمضان بشهر او شهرين، ولكن حين تسأل: لماذا لا يتم التبضع قبل رمضان بوقت بعيد، تأتيك الاجابة: ان المتعة تكمن في التسوق قبل ايام من الشهر، حيث التزاحم وحركة الناس غير الاعتيادية، ان من احلى ما في رمضان هو التحضير له، هكذا يقال، ويتم التأكيد عليه.
رمضان العراقي.. لابد له ان يتوقف عند الاشهر التي مرت بعده، يسأل الناس عنها، يرى ويستمع ويحس، ويحمد الله الذي لايحمد على مكروه سواه، انه يجد من مهمته ان يتفقد الاحوال، حاله عند الناس وحال الناس عنده، ويستمع الى الحكايات وان كانت محزنة، ويحدثه العراقيون عنها: هنا جعنا وهنا شبعنا، هنا متنا وهنا عشنا، هنا بكينا وهنا ضحكنا، هنا غضبنا هنا هدأنا، هنا نمنا هنا صحونا، هنا ضاع منا الامل وهنا راح منا اليأس، هنا وهنا وهنا، ومن هنا تمتد يدا رمضان العراقي بالدعاء، ولا بد له من رسم ابتسامة لانه يعرف ان ابتسامته بلسم.
سألت بائعا عن رمضان العراقي قال: انه بخير..، ان اجمل ما في رمضان هو ان الشورجة تنتعش وتستعيد عافيتها من جديد، لذلك يكون رمضان بخير، يسعدنا تواجد الناس بكثرة ويفرحنا الزحام الذي ينتهي مع بدء الشهر المبارك، نحن نتبارك بهذا الزحام، نبيع في هذه الايام ما لانبيعه طوال الاشهر الاخرى وخاصة من بعض المواد لانها تدخل ضمن المائدة الرمضانية، ولكن الجميع يشكو من ارتفاع الاسعار، وهذا شيء طبيعي يحدث كل عام، ولكن ليس غلاء كبيرا، ثم ان الرواتب تحسنت والحمد لله واصبح المواطن يشتري ما يشاء.
قلت لجارتي التي عرفت انها ذاهبة الى الشورجة للتبضع لرمضان: لماذا لم تذهبي قبل هذا الوقت ؟، فقالت: ليس هنالك احلى من الاستعداد لرمضان قبله بأيام حيث تشعر انك فعلا قريب منه، وهذا تقليد سنوي ليس لي انا بل للعراقيين جميعا، انهم لايشعرون بالسعادة الا عندما يزورون الشورجة قبل قدوم الشهر الفضيل.
رمضان العراقي.. لايخشى من شيء، لانه يعرف ان الناس تشعر بالطمأنينة فيه، وهو يعرف ان العراقيين لن يتخلوا عنه في اصعب الظروف، لابد ان يقيموا طقوسه، انهم يمارسون كل ما كان يمارسه الذين سبقوهم، اما ليل بغداد فيبدو في صورة اخرى غير المتعارف عليها خلال السنوات الاخيرة الماضية وان كان خلال الشهور الماضية في حال احسن.
سألت الحاج بهجت محمد علي ((62) عاما عن رمضان العراقي فقال: انه درة الشهور، كنا نستعد له قبل شهر ومازلنا، لتهيئة احتياجات الصوم، وفيه تنشط حركة المساجد بشكل كبير، فنقضي نهاره بقراءة القرآن وفي الليل بالصلاة وقراءة القرآن ايضا وخاصة في الليالي العشر الاخيرة، اذ نظل الى الصباح لان فيها ليلة القدر، واضاف الحاج: رمضان شهر يرتبط بالعبادة والسعادة وتبادل الزيارات وصلة الرحم والتآلف والتقارب بين افراد الاسرة الواحدة فتكون متواجدة بكاملها على مائدة الافطار، ويستطرد الحاج مستذكرا: في رمضان وبعد الافطار يتفرق الناس، فالرجال يذهبون الى المساجد والمقاهي للتسلية حيث تقام لعبة (المحيبس) ولعبة (الصينية)quot;، بينما ينطلق الاطفال في الطرقات يغنون (الماجينة) الاغنية الرمضانية المحببة في رمضان، وهم يحملون بأيديهم علبة صفيح فيها عدة ثقوب ويضعون داخلها الشموع، ولم تكن هنالك مثل الان فوانيس رمضان الصغيرة والجميلة، الان تغيرت الكثير من الاحوال ولكن مازلنا متمسكين بالكثير منها، ثم يضحك الحاج وهو يقول: اصبحت الفضائيات للاغلب هي التسلية الوحيدة في رمضان.
رمضان العراقي.. هاهو الان بيننا، نستميحه عذرا ان نسينا شيئا من طقوسه او تكاسلنا عنها، على الرغم من اننا نعرف اننا اشد حرصا على ان نحتضنه ونعيشه باللحظة، نفتح اذرعنا له ونتمناه مباركا وكريما مثلما هو دائما.
التعليقات