بدر السلام الطرابلسي من تونس: التاسعة ونصف مساءا، ساعة الذروة بالنسبة لعاملات النظافة بمحطات المترو الخفيف بتونس العاصمة. التقيناهم بمحطة باب سعدون في تلك الأوقات حيث كان العمل على أشده:أرضية مبتلة، خراطيم المياه في كل مكان، بقية باقية من الفضلات منتشرة في بعض الزوايا..أعقاب السجائر..أكياس البلاستيكية.. بعض التذاكر المنتهية الصلاحية...مع وجود بعض المسافرين الذين يكاد يخلو بهم المكان بسبب عطلة عيد الاستقلال الوطني..

quot; في الأعياد والمناسبات الوطنية لا نرتاح أبدا ونعمل بلا انقطاع..وحتى يوم عيد الاستقلال الذي ناضل آباءنا وأجدادنا من أجل تحقيقه لا نتمتع فيه بالراحة..quot; هكذا تحدث ثالث المنظفتين عز الدين.ق بحرقة شديدة بعدما استفسرناه عن مزاولتهم للعمل في مثل هذه المناسبة الوطنية..

إجابات زميلاتاه كذلك جاءت مندفعة ومتتالية بعدما استفسرناهما عن ظروف عملهما الليلية وقيمة الأجور والمنح و الضمانات الاجتماعية وساعات العمل وغيرها..وكأن إجابتهما حاضرة مسبقا، ما لا نميل إليه لعدم إعلامهم بزيارتنا لهم، أو أن قساوة الظروف الشغلية في شركة المناولة التي يعملن بها جعلت كلاما كثيرا يتراكم عندنهم و يلفظ من خلال أسئلتنا وهذا الأقرب للواقع..

*تحيل في دفع الأجور..

لم يعد خافيا على احد تدني أجور العاملين بشركات المناولة بصفة عامة (حراسة، نقل، حظائر..) ومناولات التنظيف بصفة الخاصة وفي هذا السياق تفيدنا الخالة quot;سيدةquot;، إحدى العاملات المنظفات في المحطة بأنها تتحصل على مائة وثمانين دينارا شهريا مثلها مثل باقي زميلتها وتضيف وقد علت مسحة من الشحوب والألم وجهها quot;.. لا أفكّر لا في الترقية ولا حتى في وسائل المتعة البسيطة وإنما أسعى فقط لتوفير ما يبقيني وعائلتي على قيد الحياة..quot;، علمنا وأن المقاول صاحب شركة المناولة يتقاضى على كل عاملة 580 دينار كما جاء في الاتفاق النهائي الذي عقده مع وزارة النقل حسب ما أفادتنا به العاملات حينها..

إلى ذلك، وخلافا لما يتمتع به الشغالون من منح على الإنتاج ومكافآت وعطل بالوظيفة العمومية و الخاصة (في جانب هام منها ) فإن عاملات النظافة بالمحطات لا يتمتعن بشيء منها، ويوضح لنا عز الدين هذه النقطة بقوله quot; أشتغل منذ اثني عشر شهرا أو أكثر بهذه المهنة ولم أتحصل على يوم راحة واحد، حتى الأعياد والمناسبات مجبرين على العمل فيها دون هوادة..quot;.

كما يعلمنا في ذات الإطار وهو يتم تجميع خرطوم المياه بعد أن أتم quot;تسييقquot; أرضية المحطة وأرصفتها بأنه quot; إلي يوم الناس هذا لم نتحصل على منحة الإنتاج أو تأمين ضد الأمراض أو حق التداوي أو أي تعويض من أي نوع على الرغم من عملنا الليلي في برد الشتاء كما ترون..quot;

كما قال أيضا أنه لا يطالب بالكثير فيما يخص الأجر..فقط 250 دينار كما يقول قانون الشغل..منحة إنتاج..التمتع بالعطل كباقي الأجراء..

quot;اضرب القطّوسة تتربّى العروسةquot;!
quot;نبدأ العمل منذ الساعة السابعة مساءا وننهيه في حدود الرابعة صباحا دون أدنى فترة استراحة..quot; هذا ما أفادتنا به quot;ياسمينquot;، ثانية ثلاثة عاملي النظافة الموزعين على المحطة، ياسمين امرأة مطلقة تعمل في التنظيف منذ 28 سنة ملأ البؤس ملامح وجهها والوهن جسدها حتى أنها كانت تعتمد على المكنسة وهي تجيبنا على تساؤلاتنا..quot; نعمل في ظروف قاسية..وتمر علينا مختلف فصول السنة بتقلباتها دون أن نتحصل على بدلات وسترات حامية من تغيرات الطقس..فالشتاء يمر بأمطاره وبرده و(سرده) ولا يمكننا صاحب الشركة من معاطف بلاستيكية واقية من الأمطار ولا أحذية quot;بوطاتquot; واقية من برك الماء والطين..quot;وتضيف quot; كم من أفجار مرت علينا ببردها وquot;سردهاquot; ونحن نترنح في أسمالنا التي تراها عليناquot;..وترى أن من quot; يتجرّأ باش يتكلّم يكون مصيرو الطرد و الإذلال و الاهانة والشتم قدام الخدامة الكل كيف ما يقول المثل quot;اضرب القطّوسة تتربّى العروسةquot;!

هذا وتخبرنا محدثتنا عن بعض المشاكل التي تعترضها في العمل وخصوصا آخر الليل حيث تتعرض في أحيان قليلة إلى بعض quot;المعاكسةquot; أو quot;القلقquot; من أحد السكارى إلا أن أنها تعرف جيدا كيف تنهي الأمر بحنكة وهنا تطرفنا بحكمتها حيث تقول quot;السكير في بعض الأحيان يتفهم حالي وينسحب..وعرفي لا يريد تفهمي وسماع مطالبي..أتمنى أن يفعل ذلك في المستقبل القريب..quot;

*لو يحترم القانون بثغراته..!!

الأكيد أن تطبيق قانون الشغل المنظمة لهذه المهن هو الكفيل بحل الخلافات والتجاوزات القانونية في حق عاملات التنظيف إلا أن واقع الحال أثبت أن شركات المناولة تتعامل مع القانون على أساس أنه حبر على ورق الأمر الذي أكده لنا السيد منجي عبد الرحيم كاتب عام جامعة المهن المختلفة حيث أفادنا بأنه لو يحترم القانون بثغراته فلن تقع العديد من المآسي لهذه الفئة من الشغيلة مشيرا للمنشور عدد 35 والمؤرخ في 30 جويلية 1999 والصادر عن الوزارة الأولى حول المناولة في الإدارة والمنشآت والمؤسسات العمومية وكذلك المنشور عدد 22 والمؤرخ في 28 أوت 2003 حول نفس الموضوع حيث وضح لنا بأنه لم يقع الالتزام من قبل أصحاب شركات المناولة بضرورة تأمين العمّال وضمان سلامتهم.

هذا و للإحاطة أكثر بهذا الموضوع، اتصلنا بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وبالتحديد بجامعة الخدمات لنتعرف على موقف الأعراف من هذه القضية لكننا لم يتسنى لنا ذلك.

عموما، تبقى مسألة تسوية ملفات عاملات التنظيف رهينة إرادة جماعية بين مختلف أطراف القضية للوصول إلى اتفاقات تنهي حالة الاحتقان والغضب بين صفوف العاملات وذلك بتفعيل القوانين المنظمة لهذه المهنة والتزام المشغلين بها لضمان كرامة العاملة وحسن سير الخدمة في المؤسسات المستفيدة والتي تعتبر ضلعا أساسيا في مثلث التسوية الاجتماعية لهذا الملف.

*كاتب عام جامعة المهن والخدمات: هنالك تواطىء بين المؤسسات المستفيدة والشركات المشغلة.

أفادنا السيد منجي الرحيم كاتب عام جامعة المهن المختلفة في الحوار الذي أجريناه معه حول ملف عاملات التنظيف في المحطات بأن quot;هنالك تحيل واستغلال وتواطؤ بين المؤسسات المستفيدة والشركات المشغلة..quot; ويوضح لنا أكثر هذه النقطة بقوله بان المؤسسات المستفيدة من اليد العاملة هذه لا تعير أهمية عند تعاقدها مع شركات المناولة لقانون التغطية الاجتماعية والترسيم والمنح للعملة والذي من المفروض أن يضمنها مقاولي شركات المناولة قبل إبرام أي اتفاق مع الشركات الأخرى..ويذكر في هذا الإطار مثالا يتعلق بعاملات النظافة بمستشفى شارل نيكول حيث يعملن منذ اثني عشرة سنة بالمستشفى المذكور 12 سنة ولم يتحصلن على تغطية اجتماعية، ولا حتى علاج مجاني بالرغم من أنهن يعملن بمستشفى عمومي..!

ويبين السيد منجي عبد الرحيم بأنه لو يحترم القانون بما فيه من ثغرات فإن العديد من المآسي للعاملات لن تقع في المستقبل وسيوضع حد للاستغلال الرهيب للعاملات والفوضى العارمة التي تسم القطاع وغياب الحوار والتنظيم..

وعن برنامج تحرك النقابة العملي بخصوص هذا الملف أكد كاتب عام جامعة المهن المختلفة على عزمهم التصدي للتحيل وكل أساليب السمسرة التي يأتيها غالبية أصحاب شركات المناولة..

وعبر في ذات الإطار عن ثقته في نظامنا القانوني والمؤسساتي حتى يأخذ بعين الاعتبار هذا الملف على غرار كل التشريعات و القوانين الأخرى..

كما أفرد السيد عبد الرحيم حيزا هاما من حديثه عن ملف الأجور إذ ذكر لنا بان العقود المبرمة مع العاملات والعملة في قطاع المناولة مع الشركات المشغلة تضمن لهم أجرا لا يقل عن مائتين وخمسين دينارا، طبعا بعد أن يأخذ صاحب الشركة ما يساويها أو أكثر من ذلك في غالب الأحيان، وبالرغم من هذا الاتفاق الهزيل فإن هذا الأخير لا يلتزم بالرقم المحدد للأجر ويدفع لهن quot;تحت الحيطquot; مائة وثلاثين أو مائة وثمانين دينار..كل واحد فيهم حسب مزاجه الاحتيالي..

ويرى كاتب عام الجامعة أن الحاجة والبطالة تدفع بهؤلاء العملة بالقبول بهذه الأجور الهزيلة وبغياب حقوقهم الاجتماعية في المؤسسات التي يعملون بها، خاصة وأن فئة هامة منهم ذات مستوى علمي بسيط ومتدني، ولا تجدن مشغلا آخر يقبل بهن على هذه الوضعية الاجتماعية والتعليمية.