كامل الشيرازي من الجزائر: تمثل quot;القعدةquot; سلوكا إجتماعيا موروثا لا يزال راسخا في الجزائر، حيث ينظمها السكان المحليون وفق طقوس وتوابل لا تتقيد بالضرورة بتلك الجلسات التي تقتضيها المناسبات الاجتماعية، وبين الشمال والغرب مثل الشرق والجنوب، تتمايز هذه القعدات وتأخذ أنماطا وخصائص تختلف شيئا ما بين المجالس الرجالية ونظيرتها النسوية.

وبعدما طبعت الزمن الماضي في الجزائر، عادت quot;القعدات الشعبيةquot; من جديد وبشكل مكثف لتملأ البلد وتشغل الناس لا سيما في فصل الصيف وفترات العطل، ودفع إغراء هذه القعدات بكثير من الجزائريين سيما سكان العاصمة، للعزوف عن حضور المهرجانات الرسمية والتظاهرات الفنية العادية، وغزو هذه القعدات التي أسهمت في إعادة الاعتبار للفن الشعبي المحلي الذي تمتزج فيه طبوع القصيد الحضري بالفلكلور الصحراوي ناهيك عن الحوزي والشاوي والوهراني وغيرها.

وكان الراحلان الحاج العنقى والهاشمي قروابي من ألمع نجوم هذه القعدات، فيما لا يزال كوكبة من (اللشياخ) الآخرين يصنعون أيامها العتيدة مثل: عمر الزاهي، عزيوز رايس، عبد المجيد مسكود، نصر الدين قاليز، إلى جانب مطربات كـquot;دليلة الدزيريةquot;، quot;راضية عدةquot;، quot;نعيمةquot;، quot;بريزة السطايفيةquot; وغيرهم. في العاصمة الجزائرية ومدن الشمال عموما، عادة ما يلتقي الشباب والكهول إضافة إلى نساء وفتيات من خلف الحجب عند (اللشياخ) وهم فنانو الشعبي الذين يتغنون بأروع قصائد التراث الشعبي المحلي وكذا العربي، ويقومون بتقديمها في قوالب مبهجة يتم فيها أيضا استخدام آلات موسيقية كالعود والجيثار والبونجول والقويطرة والدربوكة، وعادة ما تنتظم هذه القعدات على هامش الأفراح وتمتد إلى خيوط الصباح الأولى.

ويشير quot;جهيدquot; أحد الفنانين الشعبيين الشباب لـquot;إيلافquot;، أنّ هذه القعدة لها مفهوم يزاوج بين المتعة الفنية واللذة الروحية، وبمنظاره فإنّ هذه القعدات المتوارثة منذ عشرينيات القرن الماضي، أسمى في عيون منشطي وحاضري هذا التقليد العريق، من حفلات الراي والديسك جوكي التي تمثل بمنظار فتحي، أيمن وسمير رمزا بحسبهم لـquot;الرداءة والابتذالquot;.

بغرب وجنوب الجزائر، تجتمع النسوة في جلسات مبرمجة وفق رزنامة تتفقن عليها، وعادة ما تكون quot;القعدةquot; في مستهل الليل أمام صينيات الشاي التي يتم ترصيعها بالأطباق الشعبية المعروفة محليا كالرفيس أو بعض الحلويات التقليدية المتداولة بالمنطقة مثل حلوى quot;المعكرةquot; لتكتمل بذلك طقوس quot;القعدةquot; التي تخصص في الغالب لتبادل أطراف الحديث حول شؤون متعددة وقضايا تهم الحياة الشخصية لبنات حواء، مثل ما يرتبط بقضايا المرأة والطبخ وبعض المسائل الأخرى التي تلامس مجالات حياتية عصرية بينها مستجدات الموضة وفنون التجميل.

وتكتسي هذه القعدات محليا بخصوصيات قائمة بذاتها من خلال الرجوع إلى بعض التقاليد الخاصة كاستحضار بعض الأعراف الشعبية المتداولة في إطار ما يسمى بـquot;القولquot; وquot;الصفquot; وهي مجموعة من الأبيات الشعرية الشعبية ترددها النسوة بينهن بشكل جماعي يعالجن من خلالها موضوعا بارزا ومحورا هاما قد يكون ذا صلة وطيدة مع بعض المستجدات الاجتماعية.

وفيما تفضل العاصميات اغتنام القعدات لتنظيم لعبة البوقالة الرائجة، تركّز نساء الشرق الانسياق وراء الأبيات الشعرية المتغنية بتاريخ البلاد وبطولاتها على غرار ثورة الأمير عبد القادر الجزائري والمقراني ولالا فاطمة نسومر وأولاد سيد الشيخ وبوعمامة التي غالبا ما مثلت مرجعية هامة في هذا الإطار، فضلا عن التغني بالخصال والشخصيات الذائعة الصيت وطنيا، وعادة ما تكون تلك الأبيات منتظمة في شكل قوافي شعرية محافظ عليها ضمن الوزن الشعري الذي يطغى عليه الشعر الملحون في أكثر من حلقة كما تقول فلّة (45 سنة) وهي إحدى المواظبات على حضور هذه القعدات.

كما يتميز ديكور quot;القعدةquot; الجزائرية في الشرق الجزائري كما في الغرب والجنوب أيضا، بمسحة جمالية تصنعها quot;موضةquot; النساء الحاضرات من خلال ما يرتدين من لباس تقليدي مزين بالفن المعروف بالمجبود أو الطرز المذهب، وهو اللباس الذي عادة ما تكتمل صورته بلون الحنة التي غالبا ما تزيّن أيادي تلك النسوة ضمن أشكال مختلفة منقوشة في غاية الروعة والتناسق تعكس مدى الذوق الفني الذي تتمتع به المرأة الجزائرية والتي عادة ما تشتهر بالاهتمام بمظهرها الجمالي.

ولا يغيب الشاي عن مثل هذه الجلسات النسوية الحميمية، وهو عادة ما يكون محضرا بعناية، حيث تزيد من نكهته نبتة quot;النعناعquot; المحلية المنعشة، وفي بعض الأحيان تضاف إليه عشبة quot;الشهيبةquot; التي تعطيه مذاقا ساحرا، ويقدّم الشاي في إبريق من الحجم الكبير تطول معه quot;القعدةquot; ويحلو معه الحديث في مواضيع ومجالات شتى يستحضر فيها عرّابو القعدة حاضرهم وماضيهم معا، وتعود بهم الذكريات بنوع آخر من الحنين إلى فن القعدة قديما، حيث كان قائما على الاستعراضات وألعاب الفروسية ورقصات الطريقة الصوفية.
وتعلّق زبيدة (52 عاما):quot;القعدات في عمقها تعبر بحق عن الارتباط الوثيق بمجموع العادات المتوارثة، وتعد أيضا بمثابة متنفس بين النساء فيما بينهن في إطار يجمع بينهن في ركح تقليدي يُراد من خلاله الحفاظ على هذه الأعراف وغيرها المنتشرة بالجهة وتوريثها للأجيال الأخرى بنوع من التواصل النابع من عفوية الانتماء وأصالة إرث الزمن الجميل.