ترجمة خالدة حامد:
الكلمة الآتية ألقيت بمناسبة استلام الفونسو إيلسابيو جائزة الترجمة من جامعة ولاية سان دياغو في الثاني والعشرين من آذار عام 2002. النقطة المحورية في هذه الكلمة هي توطئة كتابي: الكتابة عبر الترجمات والتباينات (مطبعة جامعة ويزليان، 2004). جدير بالذكر أن القصائد المذكورة هنا مأخوذة من هذا الكتاب.
أرغب بالتحدث ـ على عجالة ربما ـ عن الطرق التي أفادتني فيها الترجمة كشكل من أشكال التأليف وكأساس للكثير من عملي بوصفي شاعراً وكاتباً. لم يدر بخلدي مطلقاً أني مترجم محترف لأن إدراكي لأية لغة أخرى، عدا الإنكليزية، محدود تماما ً يُصيِّر كل ترجمة أنجزها إلى عملية بطيئة وأحياناً مبهمة جداً (غالباً ما يحدث ذلك في حالة اللغات التي تغترب عن وجهة نظرنا، وبالتعاون مع مترجمين آخرين). وكقاعدة عندي، عندما أترجم لا أضيف للنص الأصل ولا أحذف منه لكني كنت ضمن تلك الحدود أخالني شاعراً يستعمل الترجمة كوسيلة لخلق قصائد جديدة أو نقل قصائد جديدة للغة الإنكليزية، بل الأكثر من ذلك، كانت لديّ حاجة (وأشدد على كلمة حاجة) إلى الترجمة و الارتباط (من خلال الترجمة) بعمل غيري من الشعراء وفكرهم؛ إنها مسألة فائقة الأهمية بالنسة لي في ما عددته منذ زمن بعيد "مشروعاً" يخصني ونشاطاً جوهرياً في حياتي أنا بوصفي شاعراً.
لا أظن ذلك أمراً غريباً بأي حال من الأحوال مع أنه استلزم مني وقتاً طويلاً للاعتراف به على ما هو عليه؛ فالكثير من الكتّاب، والشعراء منهم على وجه الخصوص، يرثون أعمال من سبقوهم ويحرزون التقدم بها وفي حالتي أنا، انتهت علاقتي بالشعرية الإثنية وبعمل المجلدات والأنطولوجيات الشعرية ـ إلى جانب إخلاصي للـ"تجريب" الذي اتخذته أساساً لكتاباتي ـ وكانت لديّ اعتبارات ما تزال تشكل ركيزة ممارستي. وبالتالي، لم يكن عملي مشتملاً على الترجمة فحسب بل استعملتُ تقنيات من قبيل الكولاج والامتلاك بوصفها طرقاً تفتح شعرنا الفردي أو الشخصي على مجال الأصوات الأخرى والرؤى الأخرى التي تجاور أصواتنا ورؤانا. صرت أفكر في ذلك كله ـ الكولاج والامتلاك والترجمة ـ من منظور أيديولوجي. وقبل زمن بعيد عنّا حدد والت ويتمن ، في قصيدته "أوراق العشب"، معالم هذه المهمة بوضوح شديد:
تمر بي الكثير من الأصوات البكماء البعيدة،
أصوات أجيال السجناء والعبيد الأبدية،
أصوات المرضى واليائسين، [أصوات] اللصوص والأقزام،
أصوات مراحل الإعداد والتجميع،
و[أصوات] الخيوط التي تربط النجوم، و[أصوات] الأرحام و[أصوات]
ماهية الآباء،
و[أصوات] حقوقهم التي يتهالك عليها الآخرين،
[أصوات] المشوهين، التافهين، المغفلين، الحمقى، القانطين،
[أصوات] الضباب في الهواء، الخنافس تدحرج كرات قذارتها.
......................
ورد هذا في مقطع عنوانه "أغنية نفسي" في قصيدة "أوراق العشب" ـ التي تبرع في المزاوجة بين الصوت الفردي والشعور بالإنسانية المضطهدة كلها؛ وهو مقطع ولد من جديد لأجلنا نحن ـ بل لأجلي أنا من دون شك ـ في غضب تشارلز أولسون المستعر على "الاقتحام الغنائي للفرد بوصفه أنا" ego أو في دعوة روبرت دنكان إلى "لقاء جديد عن الكل" (أي "المجموع") بين أسلافي المباشرين ومعاصريّ الأقربين.
لقد مارست الترجمة بطرق مختلفة لما يزيد على الأربعين عاماً الآن وكان أول كتاب نُشرَ لي في الحقيقة هو "شعراء ألمان شباب جدد" عن دار ستي لايت (1959) أي قبل سنة من صدور كتابي الشعري الأول. وتضمن ذلك الكتاب ترجمات لم يسبقني إليها أحد نقلتها إلى الآنكليزية لشعراء أمثال ياول تسيلان، هانز ماغنوس انزنسبيرغر، غونتر غراس، انغيبورغ باخمن، هلموت هيزنبوتل الذين صاروا، بعد عقد من الزمان، من كبار الكتاب الألمان. وقمت في الستينيات بإدخال التعديلات على مسرحية رولف هوشهوث وعنوانها "النائب" لغرض أداؤها على مسرح برودواي كما أنجزت المزيد من الترجمات من شعر انزنسبيرغر وبدأت بترجمات متفرقة لشعراء دادائيون من أمثال هانز آرب وريتشارد هولسنبيك من الألمانية ولتريستان تزارا وفرانسيس بيكابيا من الفرنسية. وانشغلت أيضاً بترجمات من الحداثيين الإسبان ـ كان معظمها لمتعتي الخاصة وكطريقة لتحسين فهمي للعمل المتاح لديّ ـ وبدأت منذ عام 1960 فصاعداً باستعمال الترجمة كطريقة لتحديد مسار منشوراتي.
ويتجلى هذا التقنين بشكل واضح في نشاطاتي الترجمية التي تعدّ أساس الأنطلوجيات الشعرية (تقنيّو المقدس، هز اليقطينة، قصائد الألفية) التي بدأت بتجميعها أواخر الستينيات. كما قادتني الترجمات هنا إلى التفاعل مع شعراء هم الأقرب إلى زماني ومكاني ـ كيرت شوترز، فردريكو غارسيا لوركا، فايتزلاف نيزفال، وهم من بين الذين أفرطت في ترجمة الكثير من أعمالهم في الآونة الأخيرة ومما يدهشني الآن أني أترجم لبيكاسو. وبدا لي أيضاً أن الكتب الضخمة كانت نوعاً من التجميع والكولاج أشبه كثيراً بالترجمات التي أتاحت لي أن أعمل وأن أكون.
كنت في الكتب الضخمة ـ ولاسيّما كتب الشعر الإثنية ـ منشغلاً بمختلف العمليات ذات الصلة بالترجمة لكنها ليست متطابقة معها دائماً. وتضمن بعض من تلك الترجمات، وأعني أوضحها، أشكالاً تجريبية تركز ربما على ترجمة الشعر الشفاهي و(على العكس من ذلك) الشعر المنظور، أي الانبهار بما كان يُعتقَد أنه نوع الشعر غير القابل للترجمة. وانهمكت في قصيدة " أغاني الحصان السبعة عشر لفرانك ميتشل" ـ من مصادر مأخوذة من النافاهو Navajo (1) ـ بما أطلقتُ عليه أنا ودنيس تيدلوك تسمية "الترجمة الإجمالية" بمعنى أننا نتعدى حدود المستوى الدلالي في محاولة منا لإيجاد مكافئ للمفردات غير المعجمية في أغنية النافاهو، بل حتى للموسيقى؛ للألحان(وهو أكثر ما يزعجني)، التي من خلالها تنتقل الكلمات والأصوات. بينما كانت القصائد الغنائية الهندية الأخرى ـ ومعظمها من سينيكا ـ خليطاً من مجموعات صغيرة من الكلمات والأصوات التي اخترت ترجمتها كنوع من الشعر المنظور بغية الولوج في التعقيد المثير لأشكال لولا ذلك لكانت بسيطة ومنمنمة وذلك عن طريق استحضار صورة أشكال منمنمة مشابهة في فنون لغتنا (التي يُفترض أنها معقدة ومتطورة).
ومع أني كنت أعمل على قصائد معاصرة كانت تجريبية بحد ذاتها لكني اضطلعت أيضاً بترجمة مجموعة كبيرة من القصائد المنمنمة للشاعر الألماني يوجين غومرينغر التي اكتشفت أنها أداة مثيرة للوصول إلى الأساسيات المتعلقة بماهية الشعر والترجمة.
كل ذلك يبقى مهماً عندي، وأعني بذلك الترجمات وغيرها من الاستدلالات وأعمال "الآخرية" المشروعة التي تشكل مهاد مشروعي بمجمله؛ ففي "تنويعات لوركا"، وهي سلسلة من القصائد منذ بداية التسعينيات، تمكنت من أن أخطو إلى أبعد من الترجمة وذلك حينما شاطرت لوركا الكتابة (أو في ترجمتي لسلسلة قصائد لوركا "الأطقم" التي تشكل كتاباً) واعتبرتها مصدراً لي عن طريق عزل الأسماء وغيرها من الكلمات (التي كنتُ أنا آنذاك من استعملها بالإنكليزية) وزججتها، بمنهجية، في تراكيب جديدة. أما في سلسلة القصائد الأخرى، Gematria، فقد استعملت شكلاً يهودياً تقليدياً يتم فيه ربط الكلمات بطرق عددية وبقائمة مفردات تضم كلمات وعبارات مرتبة عددياً مأخوذة من كتاب العبراني المقدس لخلق شعر ـ كما هو الحال مع "تنويعات لوركا" ـ اعتقدت أنه شخصي بالنسبة إلي وأنه مخلوق بوسيلة تشترك بما عدّه بليك "أكثر الأفعال إلهاماً: أن تنتهج لنفسك فعلاً آخر". ومع أني واصلت في أعمالي الأخيرة ترجماتي من بيكاسو ومن الشاعر التشيكي الحداثي الكبير فايتزلاف نيزفال، مزجت أيضاً ما أخذته من أعمالهم مع عملي؛ فقمت بتأليف ثلاثة سلاسل من أشعار عددها مائة أطلقت على كل واحد منها تسمية "سيرة ذاتية"، واستعملت مؤخراً ـ في "كتاب الفطنة" ـ صوت الشخص الأول، أي الضمير أنا، في تقصي كل ما يمكن لنا قوله لأنفسنا ـ لا عن ذاتي أنا فحسب بل عن ذوات الآخرين ـ وأتمكن عبر تلك السيرورة من تشكيل الهوية على نحو له مغزى....
وأخيراً، مادام هناك اهتمام باستعمالات الترجمة في قاعة الصف، أرغب بالتحدث، بإيجاز، عن عن تجربتي الشخصية بهذا الصدد.
اكتشفت في الكلية وغيرها من المؤسسات التعليمية مناهج للترجمة وللترجمة المقاربة تتمتع بأهمية بالغة في تدريس ما نطلق عليه، (وإن كان مشوباً بشيء من عدم الارتياح)، تسمية الكتابة الإبداعية. كنت قبل سنوات كثيرة ألقي دروساً في الترجمة للكتّاب في جامعة ولاية سان دياغو، وكنت أبدأ بترجمات من الإنكليزية إلى الإنكليزية وأنتقل إلى التراجم الموثوقة وإلى التراجم التجريبية والمقاربة التي كنت أصفها لهم. لم أكن أنوي هنا خلق كادر من المترجمين المحترفين بل تشجيع الطلاب على الكتابة ـ سواء أكانوا مبتدأين أو متقدمين كثيراً ـ كي يدخلوا في فعل الاتصال بالكتّاب/الشعراء الذين سبقوهم. كان يدور بخلدي أحياناً أن لهذا الأمر صلة ما بما يمارسه طلاب الفن في الماضي (ومازلوا يمارسونه، أحياناً، في الحاضر) الذين يستنسخون عمل الآخرين الذين غالباً ما يكونون من كبار الفنانين. وهنا ـ قدر تعلق الأمر بالشعر ـ لم تكن المسألة متمثلة بصقل مهارات الفرد بلغة أجنبية كأن يتم استعمال أية وسائل متاحة للفرد كي يزج العمل في عمله الشخصي وفكره.
لقد نضجتُ في زمن يمكن لشعراء ـ مثلي أنا شخصياً ـ أن يعدّوا عمل أسلافهم ومعاصريهم دليلاً على الدور الحاسم الذي مارسه الشعر والشعراء في تشكيل حاضر ومستقبل جديدين. ومن أجل ذلك ـ ومن أجل المجتمع الأكبر الذي كنا نتوق إليه أيضاً ـ فإن تجارتنا الأساسية، بوصفنا بشراً، هي الترجمة والتعاون. وهذا هو الدرس ـ لا التقنية بحد ذاتها ـ هو ما كنت أحاول إيجاده.
ثمة معنى آخر ولا شك تتضمن فيه الترجمة نوعاً من التعاون ـ في ذهن المترجم في الأقل. أنا واعٍ لذلك تماماً وإن بدا مضللاً غالباً كما أني أترك نفسي، أحياناً، تُصدِّق أن كتابتنا كلها ـ شعرنا كله ـ نشاط يشاطرنا إياه كل من يستعمل لغتنا المشتركة ويوجدها. إن فكرة الشعر المستمد مشاعياً ـ أي شعر القصيدة مهما كانت فردية على النحو الذي أسماه باوند "حكاية قبيلة" ـ هي ما شد انتباهي حتى حينما شعرت بزيفها. ففي عالم يستعر فيه مجدداً هذا النوع من الاتحاد ، سأواصل التفكير بهذه التعبيرات أينما قادتني......
(1)النافاجو Navajo ، وتلفظ " النافاهو " Navaho أيضاً: أكثر الجماعات كثافة سكانية في الولايات المتحدة، وهم من سكان أمريكا الشمالية الأصليين. وقد تفرق ما يقارب 170000 نسمة منهم أواخر القرن العشرين في أراضي شمال غرب نيومكسيكو وأريزونا ، وجنوب شرق يوتا . يتكلم هؤلاء الأقوام لغة هنود الأباشي ، كما أنهم يُصنفون ضمن هذه العائلة . ولا يمكن تحديد التاريخ الذي هاجر فيه النافاجو والأباشي من كندا حيث ما يزال يعيش هناك معظم هنود الأباشي . والمرجح أن ذلك حصل في الفترة من 900 ـ 1200 م . (المترجمة)
التعليقات