بيروت: رغم رحيله عن عالمنا مبكراً، يطل عاشق الضوء واللون المخرج الشاب يحيا سعادة عبر الشاشة من خلال عمل مصور للفنانة ميريام فارس، أنجز في أيار الماضي ويعرض اليوم بعد رحيله، لأغنية بعنوان quot;خلانيquot; بمعنى quot;تركنيquot;... فهل هي مفارقة؟

مخرج بعين رسام وذوق مصمم أزياء
لا يختلف هذا العمل عن غيره من أعمال سعادة، الذي أعطى للأغنية المصورة العربية صورة مختلفة ، متجددة، وجميلة، تشعر عندما تتابع عملاً له بأنك تشاهد لوحات فنية رسمت جامدة أولاً ، ثم حركها سينمائياً لتنبض بالحياة، منطلقاً من رؤيته كمدير فني متميز ومختلف، فيصنع لوحته بعين رسام، وذوق مصمم أزياء، وحرفية مصور فوتوغرافي. ووصفنا له quot;بعاشق الضوء واللونquot; لم يأت من فراغ، إذ معروف عن يحيا شغفه بالألوان، وللضوء في أعماله حضور قوي.

تطرف لوني
في هذا العمل المصور يتطرف سعادة لناحية اللون، فتراه يمزج البرتقالي بالاخضر بالوردي والازرق، بعضها بأقصى درجات اللون الفاقعة، وبعضها الآخر مروض بدرجات الباستيل الهادئة والمريحة للعين. وحتى الأفق في أعمال يحيا لونه مختلف عن العادة.

عالم فنطازي لا يعترف بجغرافية المكان
عندما يبتعد عن البحر ويدخل الى شوارع القرية الساحلية تتحول الصورة الى كرنفال من الألوان، مستخدماً أقمشة مزركشة بالوان فاقعة، مما يخلق شعوراً لا إرادياً بالبهجة لدى المشاهد، ويكمل لوحته بنقاط ضوء موزعة في الخلفية بشكل يمنح هذا العالم الفنطازي جمالية مبهرة. كما يجنح سعادة دوماً لرسم شخصيات تمتاز بالغرابة، والتفرد، شكلاً، وماكياجاً، وأزياءً، وهي بصمة خاصة به.

وبالطبع بعد أن صور لميريام أغنية quot;مكانه وينquot; الخليجية في جو الصحراء، نراه في quot;خلانيquot; يأخذها الى قرية ساحلية، ويخلق عالماً فنطازياً، ملامحه مختلطة، ولا يعترف بجغرافية المكان. وليصنع مشهدية تشد الإنتباه لدرجة يغرق فيها المشاهد بالتفاصيل الكثيرة التي يحتويها كل quot;Framequot; في الصورة.

quot;خلانيquot; إمتداد لـ quot;مكانه وينquot;
quot;خلانيquot; يكمل الخط الذي إختاره يحيا لميريام في أغنياتها الخليجية، بكوريوغرافي (تصميم رقص) خليجي متقن، مستغلاً مهاراتها ومرونة جسدها المدرب على الرقص بكل أنواعه، دون الحاجة للإستعانة براقصات مساندات، فالمحور دوماً هو المرأة، والتي غالباً ما تكون جميلة، مغرية، شهية، عنيفة، ومستفزة، ولا نعني هنا أنها مستفزة للغرائز فقط، فنساء يحيا سعادةمستفزات لفكر المشاهد أيضاً في أغلب الأحيان.

ميريام تحديداً من الفنانات اللواتي نجحن مع يحيا لأنها مثله، موهوبة، ومجتهدة، وطموحة، كل ما يهمها هو التعبير عن فنها وذاتها، دون الإلتفات الى الإعتراضات والإنتقادات التي تواجه كل عمل من أعمالها، هذا الصدق يبدو جلياً في أعمالهما معاً، فترى الإنسجام ينعكس على الصورة والنتيجة.

صورته عالمية سابقة لعصرها
ميريام ويحيا وقفا معاً في خندق واحد دفاعاً عن عملهما السابق quot;مكانه وينquot; الذي تميز بمشهدية بصرية رائعة، لكن تركيز البعض كان على طريقة تقطيع الصورة، فكان هجوماً غير منصف للصورة الإبداعية التي قدماها سوياً، والتي حاكتها الفنانة شاكيرا في عمل من أعمالها المصورة، إن لم يكن تقليداً، وكان وليد صدفة وتوارد أفكار، فهو دليل على أن صورة يحيا عالمية، وبأنه سابق لعصره.

ودون شك quot;خلانيquot; عمل جميل آخر يضاف الى إرث سعادة، الذي سيبقى في ذاكرة الفن اللبناني خاصة، والعربي عامة. بعد أن صنع لنفسه شهرة واسعة من خلال إرتباط إسمه بالإبتكار، والإبداع، والتفرد، والجرأة.

ساهم في صنع أسماء أهم المخرجين على الساحة اليوم
هذا الشاب الموهوب لفت الأنظار اليه قبل ان يحترف الإخراج، عندما عمل مديراً فنياً في أعمال عدد من المخرجين اللبنانيين، فتميزت أعمالهم بشكل كبير بسبب لمساته لأنه مختلف في رؤيته وفنه، فساهم في صناعة نجوميتهم وشهرتهم بشكل كبير، ولوحظ الفرق بمستوى أعمالهم عندما إعتمدوا على غيره من المدراء الفنيين.

يحيا قال لي يوماً بأنه إتجه للإخراج لأنهم (ويقصد الفنانين والمخرجين الذين عمل معهم كمدير فني) لم يصغوا اليه، أو يأخذوا ملاحظاته على محمل الجد، فكان يحقق جزءً من رؤيته الفنية، وليس كلها، ومن هنا قرر أن يحترف الإخراج ليوصل ما يريد إيصاله دون أن يكون لأحد سلطة عليه.

ورغم الهجوم الإعلامي الذي عانى منه منذ أول أعماله، وحتى آخر عمل قدمه، إستطاع يحيا أن يفرض وجوده على الساحة، وتمكن من كسب إحترام حتى من لم يتفقوا معه في رؤيته، أو تحفظوا على أفكاره. فكانوا مجبرين على الإعتراف بتميز صورته، وموهبته الإبداعية الكبيرة.

أيقونة ومثل أعلى لجيل كامل
يحيا أسس لمدرسة سينمائية خاصة به، حاول كثر تقليدها لكنهم إفتقروا للصدق الذي ميزه ففشلوا، فهو لا يعترف بموانع، أو أعراف، أو تقاليد، يقدم الفن برؤية عصرية، وعقلية حرة لا تحدها حدود، ويضمن أعماله رسائل إجتماعية مرمزة، وبعيدة كل البعد عن الوعض أو المباشرة.

فناقش في أعماله قضايا مثل قبول الآخر، والمساواة الإجتماعية، والعنف ضد المرأة، والحفاظ على البيئة، وغيرها الكثير، كما أنه عبر عن الشرائح المهمشة أو المرفوضة في المجتمع، ودافع عن حقهم بالوجود من خلال تضمينهم في أعماله.

سعادة أصبح أيقونة لجيل كامل أحب أعماله وتعلق بها، وفرضه نجماً من نجوم الإخراج في العالم العربي، من هنا تأتي إستمرارية وجوده في ذاكرة هذا الجيل، والجيل الذي سيأتي بعده، وسيتأثر بأعماله.

شاهد نبذة عن أعمال يحيا سعادة