إيلاف من لندن: كتب عالم الأعصاب تشاران رانجاناث في كتابه الجديد 'لماذا نتذكر' (Why We Remember) جملة قد تغير نظرتك لنفسك وللعالم: "الذاكرة هي أكثر بكثير من مجرد أرشيف للماضي، إنها المنظور الذي نرى من خلاله أنفسنا والآخرين والعالم". هذه ليست مجرد عبارة بليغة، بل هي خلاصة ثلاثين عاماً أمضاها البروفيسور رانجاناث، أستاذ علم النفس المرموق في جامعة كاليفورنيا، في استكشاف أغوار الدماغ البشري، محاولاً فك ألغاز قدرتنا المذهلة على التذكر، والمحيرة أيضاً على النسيان.
وفي حوار شيق أجراه معه الكاتب العلمي ديفيد روبسون، يقلب رانجاناث الطاولة على مفاهيمنا الشائعة والمضللة عن الذاكرة. يجادل بأن ما نعتبره "عيوباً" واضحة في دماغنا – كالنسيان، وارتكاب الأخطاء، وحتى تذكر أشياء لم تحدث – تنبثق في الواقع من ميزاته الأكثر فائدة. هذه "العيوب" هي ما يمنحنا مرونة معرفية كانت، ولا تزال، ضرورية لبقائنا وتطورنا كبشر.
الخطأ.. طريقك الأمثل للتعلم!
يطرح روبسون السؤال الأول الذي قد يبدو مخالفاً للمنطق: لماذا نتعلم بشكل أفضل عندما نسمح لأنفسنا بارتكاب الأخطاء؟ يشرح البروفيسور رانجاناث الآلية بأسلوب مبسط قائلاً إن الذكريات تتشكل عبر تغيير قوة الروابط بين خلايا الدماغ العصبية. بعض هذه الروابط يكون مثالياً وقوياً، وبعضها الآخر ضعيفاً وغير دقيق. مبدأ "التعلم القائم على الأخطاء" ينطلق من حقيقة أن تذكرنا لأي معلومة يكون دائماً غير كامل إلى حد ما بسبب هذه الروابط غير المثالية.
وهنا تكمن عبقرية الدماغ: عندما تحاول استرجاع ذاكرة ما، ويقارن دماغك ما تذكرته بالمعلومة الحقيقية، فإنه يكتشف "الخطأ" الناتج عن الروابط الضعيفة. هذا الاكتشاف للخطأ هو بحد ذاته عملية تعلم! فالشبكات العصبية تستغل هذه الفرصة لتقوم بتعديل نفسها: تضعف الروابط السيئة التي أدت للخطأ، وتقوي الروابط الجيدة التي كانت صحيحة.
المعنى الضمني لهذا مذهل: أفضل طريقة لتعلم أي شيء ليست فقط بالحفظ والتكرار، بل بـ "تحدي نفسك لاستخلاص المواد التي تحاول تعلمها". هذا التحدي، حتى لو أدى إلى أخطاء، يكشف نقاط الضعف في شبكة ذاكرتك، ويعطي عقلك فرصة ثمينة لإصلاحها وتحسين الذاكرة وتقويتها. لهذا السبب، يؤكد رانجاناث، أن تقنيات التعلم النشط أثبتت فعاليتها الهائلة: أن تقود السيارة بنفسك عبر حي جديد أفضل بكثير من مجرد النظر إليه على خرائط غوغل، وأن تؤدي دوراً في مسرحية أفضل بكثير لتعلم النص من مجرد قراءته مراراً وتكراراً. الخطأ ليس عدواً للتعلم، بل هو وقوده الأساسي.
لماذا النسيان نعمة لا نقمة؟
يشعر الكثير منا بالإحباط الشديد بسبب تلك "الفجوات" المزعجة في ذاكرتنا عندما نحاول تذكر شيء ما. لكن رانجاناث يفاجئنا مرة أخرى بقوله إن النسيان غالباً ما يكون مفيداً وضرورياً. كيف ذلك؟
يطرح تشبيهاً بسيطاً ولكنه عميق: "دعنا نتخيل أنني ذهبت إلى منزلك، وسألت: لماذا لا تحتفظ بكل أشيائك؟ لماذا لا تخزن كل شيء تملكه؟". ويتابع: "إذا لم ننسَ الأشياء التي فعلناها ومررنا بها، فستخزن كل الذكريات، ولن تتمكن أبداً من العثور على ما تريده، عندما تريده".
فالدماغ، مثل المنزل المنظم، يحتاج إلى التخلص من الفوضى والمعلومات غير الضرورية ليتمكن من الوصول بسرعة وكفاءة إلى المعلومات المهمة عند الحاجة. النسيان هو عملية "التنظيف" الذكية هذه. "أنا أقيم حالياً في فندق"، يضرب رانجاناث مثالاً آخر، "لن يكون من المنطقي بالنسبة لي أن أتذكر رقم الغرفة التي أسكن فيها بعد أسبوعين من الآن. وبالمثل، فكر في جميع الأشخاص الذين مررت بهم في الشارع اليوم. هل حقاً أنت بحاجة لحفظ وتذكر وجوههم جميعاً؟". النسيان ليس عيباً في النظام، بل هو جزء أساسي من كفاءته.
سر النسيان مع التقدم في العمر
إذا كان النسيان مفيداً، فلماذا نشعر بأن ذاكرتنا تتدهور بشكل ملحوظ مع تقدمنا في السن؟ يجيب رانجاناث بأن المشكلة غالباً ليست في قدرتنا على تكوين الذكريات، فالأبحاث تظهر أن كبار السن لا يزالون قادرين على تعلم أشياء جديدة. المشكلة الحقيقية تكمن في التركيز والانتباه.
"مع تقدمنا في السن"، يشرح رانجاناث، "ليست المشكلة بالضرورة أننا لا نستطيع تكوين الذكريات، بل لأننا لا نركز على المعلومات التي نحتاج إلى تذكرها. نصبح أكثر قابلية للتشتت، وكل هذه الأشياء التافهة [التي تشتت انتباهنا] تأتي على حساب المواد المهمة التي نهتم بها". ونتيجة لهذا التشتت أثناء "تسجيل" المعلومة، "عندما نحاول استرجاع هذه الذكريات لاحقاً، لا يمكننا العثور على المعلومات التي نبحث عنها" وسط الضجيج الذهني المتراكم.
ثلاثة أسرار لترويض ذاكرتك غير المثالية
بناءً على هذا الفهم العميق لكيفية عمل الذاكرة بعيوبها وميزاتها، يقدم البروفيسور رانجاناث ثلاث استراتيجيات عملية وفعالة يمكن لأي شخص استخدامها لتحسين جودة ذاكرته والاستفادة القصوى من دماغه غير الكامل:
اجعلها مميزة (التميز): "تتنافس ذكرياتنا مع بعضها البعض"، يقول رانجاناث، "وبالتالي كلما تمكنت من إبراز شيء ما، كان ذلك أفضل". كيف؟ اجعل ما تريد تذكره حياً وحسياً. الذكريات المرتبطة بمشاهد وأصوات ومشاعر فريدة وقوية هي التي تبقى وتُستدعى بسهولة. لذا، بدلاً من محاولة حشر المعلومات المجردة في رأسك، ركز على التفاصيل الحسية المحيطة بها. تخيل شكلها، صوتها، رائحتها، شعورك تجاهها. هذا التميز الحسي يساعد ذاكرتك على "التقاطها" بشكل أفضل.
ابنِ لها قصراً (التنظيم): شجع دماغك على تنظيم ذكرياتك بشكل أفضل عبر ربطها بما تعرفه بالفعل بطريقة ذات معنى وقيمة أكبر. يناقش رانجاناث في كتابه تقنية "قصر الذاكرة" القديمة والفعالة كمثال. تتضمن هذه الطريقة ربط المعلومات الجديدة التي تريد تعلمها (مثلاً: قائمة مشتريات) بأماكن أو أشياء مألوفة جداً لديك في تسلسل معين (مثلاً: طريقك من باب منزلك إلى غرفة نومك). هذا الربط يخلق "مساراً" ذهنياً يسهل اتباعه لاسترجاع المعلومات.
اصنع لها مفاتيح (الإشارات): بدلاً من إجهاد نفسك في "البحث" المضني عن الذاكرة، اجعلها "تتبادر" إلى ذهنك تلقائياً في اللحظة المناسبة. كيف؟ عبر إنشاء روابط أو "إشارات" أو "مفاتيح" تستدعي الذاكرة المطلوبة. يوضح رانجاناث: "نحن نعلم، على سبيل المثال، أن الأغاني يمكنها بشكل طبيعي إثارة ذكريات لفترات معينة في حياتك". ويمكنك بوعي إنشاء مفاتيح خاصة بك للمهام اليومية: "إذا كنت أحاول أن أتذكر إخراج كيس النفايات من المنزل في اليوم الذي تُجمع فيه القمامة، فسوف أتخيل نفسي أمشي إلى الباب، وألقي نظرة على سلة المهملات قبل أن أغادر. ونتيجة لذلك، عندما أصل إلى الباب في الحياة الواقعية، سيكون [الوصول إلى الباب] بمثابة إشارة بأنه يجب علي إخراج القمامة".
لماذا تخوننا الذاكرة؟ سر الذكريات الزائفة
ذاكرتنا ليست كاميرا فيديو تسجل الواقع بدقة مطلقة. أحياناً، قد نتذكر تفاصيل لم تحدث، أو نشوه أحداثاً وقعت بالفعل. يشرح رانجاناث سببين رئيسيين لهذه الظاهرة المحيرة:
"المخططات" الذهنية (Schemas): يمتلك دماغنا "برامج" أو قوالب معرفية مسبقة حول كيفية سير الأمور في المواقف المعتادة. "تخيل أنك ذهبت للتو إلى البنك"، يقول رانجاناث، "لديك قدر كبير من المعرفة المسبقة حول أنواع الأحداث التي تقع عادة في البنك وتلك التي لا تقع". هذه المخططات تساعدنا على التذكر بكفاءة وسرعة، فهي تعمل كـ"نسيج ضام" يسمح لنا بالتركيز فقط على المعلومات الجديدة وغير المتوقعة ودمجها في القالب العام. لكن المشكلة تكمن في أنه "في بعض الأحيان تملأ المخططات الكثير من الفراغات [في ذاكرتنا] بتفاصيل خاطئة" ولكنها تبدو منطقية ضمن القالب العام.
تحديث الذكريات (Memory Updating): ذاكرتنا ليست ثابتة، بل هي ديناميكية وقابلة للتغيير والتحديث باستمرار. وهذا أمر "مهم جداً"، كما يؤكد رانجاناث، لأننا نحتاج لتحديث معلوماتنا باستمرار. "إذا رأيت قريباً لم تره منذ فترة طويلة، وتغير وجهه... فأنت بحاجة إلى إنشاء ذاكرة أكثر دقة لمظهره [الحالي]". لكن هذه المرونة نفسها تجعل الذاكرة عرضة للتأثر. فـ"في بعض الأحيان يمكن لخيالنا أن يتسرب إلى الذاكرة ويقوم [بتحديثها بمعلومات غير حقيقية]".
هل ذكرياتنا ملك لنا حقاً؟ فكرة "الذاكرة الجماعية"
يذهب رانجاناث إلى فكرة أكثر جذرية: العديد من ذكرياتنا الشخصية قد لا تكون "شخصية" تماماً كما نعتقد. فعندما نشارك تجربة ما مع الآخرين ونرويها لهم، فإن هذه العملية بحد ذاتها يمكن أن تغير الذاكرة.
"عندما أشرح لك حدثاً ما"، يقول رانجاناث، "فإن تأليف تلك القصة لأرويها لك يمكن أن يغير الطريقة التي أتذكرها بها". ليس هذا فحسب، بل إن ردود أفعال المستمعين ("هل كانت القصة مضحكة؟ هل بدوتَ بطلاً؟") يمكن أن تشكل ذاكرتنا اللاحقة للحدث. والأخطر من ذلك، قد يعطينا المستمع "بعض المعلومات الإضافية – ولكن الخاطئة – التي يمكن أن تتسرب إلى ذاكرتي"، فنشعر بالارتباك لاحقاً بين ما حدث فعلاً وما قيل لنا إنه حدث. ويخلص رانجاناث إلى نتيجة لافتة: "أود أن أزعم أن العديد من ذكرياتنا لم تعد فعلاً مُلكاً خاصاً بنا – بل أصبحت ذكريات جماعية".
العلم يغير الحياة: وصية عالم الأعصاب
في ختام حواره، يعترف البروفيسور رانجاناث بأن رحلته الطويلة في البحث العلمي، وتأليف هذا الكتاب بشكل خاص، لم تكن مجرد عملية فكرية، بل تركت أثراً ملموساً على حياته الشخصية وعاداته اليومية. يقول: "منحني كتابة كتابي هذا، على وجه الخصوص، حافزاً للحفاظ على ذاكرتي. أحاول الآن ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، وأنا حريص جداً على نظامي الغذائي، للتأكد من أنني أحافظ على صحتي المعرفية في سن الشيخوخة".
* أعدت إيلاف التقرير عن BBC













التعليقات