إيلاف من لندن: في زمن تعيد فيه المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء مراجعة سردياتها حول العرق، الحرية، والهوية، تبرز مذكرات جوزفين بيكر كوثيقة إنسانية وسياسية لافتة، لا فقط لأنها تسرد حياة فنانة غير عادية، بل لأنها تفضح – بصراحة نادرة – التناقضات العميقة في "العالم المتحضر"، من باريس إلى نيويورك.
إنها قصة امرأة سوداء فقيرة من أميركا استطاعت أن تفرض حضورها في أوروبا بين الحربين، وأن تتحول لاحقاً إلى رمز للمقاومة والنضال والتحرر الجسدي والفني في آن.
اليوم، وبينما لا تزال أسئلة الهوية والتمييز والتضامن تشغل المجتمعات العربية، يمكن للقارئ العربي أن يجد في هذه المذكرات مرآة مزدوجة: تعكس قسوة المنظومات الغربية تجاه "الآخر"، وتكشف في الوقت ذاته كيف يمكن للفن والحس الإنساني أن يتحول إلى أداة مقاومة، بل إلى حياة مليئة – بعشرة أرواح كما تقول بيكر – رغم كل التهميش والانكسار.
من هنا، تصدر مذكرات جوزفين بيكر لأول مرة باللغة الإنجليزية.
الراقصة والمغنية والناشطة والجاسوسة، في كتاب بعنوان Fearless and Free، بترجمة أنام زعفر وصوفي لويس، يتضمن حواراتها الطويلة مع الكاتب الفرنسي مارسيل سوفاج، والتي بدأت عام 1926 واستمرت لأكثر من عقدين. الكتاب يُظهر صوت بيكر كما هو: نابضاً بالحياة، صريحاً، ساخراً، ومليئاً بالتناقضات.
تكتب إيجيما أولو في المقدمة:
"من غيرها يمكن أن تكون لها قصة مثل قصتها؟ الراقصة، المغنية، البريئة، مثيرة الجدل، الناشطة، الجاسوسة – جوزفين بيكر عاشت على الأقل عشرة حيوات في حياة واحدة."
المذكرات لا تعتمد تسلسلاً زمنياً صارماً، بل تتشكل من ذكريات وتأملات، وتقول بيكر:
"الحياة، حين تفكر بها لاحقًا، هي سلسلة من الصور… فيلم في قلبك."
لكن شخصيتها المبهرة تحافظ على تدفق النص. يظهر صوتها الشاب مشرقاً وذكياً ومليئاً بالحيوية، فيما يكشف صوتها في مراحل متقدمة من العمر عن حكمة، وغضب، وروح مرحة لا تموت.
أسلوبها في الحكي أدبي ودقيق، بجمل تكتمل سردياً في سطر أو صفحة، مثل:
"طفولتي كانت من النوع الذي لا تملك فيه جوارب. كنت أرتجف من البرد وأرقص لأدفأ."
وفي باريس، "كنت أتأخر عن العروض لأنني أتناول الحساء مع البوّابة."
وأثناء جولة أوروبية: "كنت ألقي الصور من نافذتي على الجماهير. لم أرَ قط هذا العدد من القبعات المصنوعة من القش وقد سُحقت."
وعن أدائها للجنود في برلين عام 1945:
"أعطونا أكواماً، كيلوغرامات، مئات الكيلوغرامات من شهادات السلوك الحسن الألمانية التي وجدوها في أقبية الرايخستاغ، تحت الأنقاض… دليل على أننا سنكون آريين، وآريين صالحين، إلى الأبد!"
بيكر تستمتع بالطعام والخرافات. في أحد الفصول المميزة، تقدم نصائحها ووصفاتها، تقول:
"سيداتي، نمنّ عاريات تحت الأغطية"، ترقصن، تعرّقن، ولا تخجلن من استخدام المكياج. وتشارك وصفة مرهم للروماتيزم:
"خذي أفعى مجلجلة سمينة جداً. ثم اسلخيها – وهي حيّة. ثم قشّري الدهون بنفس الطريقة... ولكن يجب سلخ الأفعى حيّة، فهمتِ؟ ومن الصعب إيجاد النوع المناسب من الأفاعي في أوروبا."
مارسيل سوفاج، المحاور، يمنح النص بعداً تأملياً. هي تتحدث إليه، وإلينا. تقول:
"دوّن ذلك يا سيد سوفاج."
والحوار بينهما مليء بالمودة والظرافة، تقول:
"لقد أخفينا أردافنا طويلاً. الأرداف موجودة. لا أعرف لماذا نكرهها. هناك أيضاً أرداف سخيفة للغاية، طبعاً، متعجرفة للغاية، متوسطة للغاية. كل ما تصلح له هو الجلوس عليها، لا أكثر."
في أوروبا، تصاب بالذهول من النفاق الديني وخطابات الكراهية ضد عروضها:
"يظن الناس أنني خرجت للتو من البرية… جنون الجسد، فوضى الحواس، الحيوانية الهستيرية… الخيال الأبيض شيء آخر تماماً عندما يتعلق الأمر بالملوّنين."
لكنها تصعد إلى المسرح وتغني:
"بكل قلبي، بكل قلبي المرتجف النابض. غنّيت: 'نم، يا طفلي المسكين'، وهو نشيد زنجي قديم من أيام العبودية، حين كان الزنوج لا يُعرف عنهم سوى الموت من الإرهاق واليأس بعد الضرب على يد مالكيهم المسيحيين جداً."
وذلك قبل أن تصل إلى الجانب الذي قد يبدو الأكثر تشويقاً في حياتها: التجسس لصالح المقاومة الفرنسية. إلا أن الفصل الأبرز يُكتب – لا يُنقل – بقلمها هي، ونُشر لأول مرة في صحيفة France-Soir. فيه، تعود إلى أميركا بعد سنوات في باريس، متخفية تحت اسم "الآنسة براون" لكي تسافر نحو الجنوب وتقوم بكل ما هو ممنوع على "امرأة ملوّنة".
تكتب بدهشة عن التمييز العنصري في المدن الأميركية الشمالية:
"المدن الأميركية التي تتفاخر بأنها في طليعة كل التقدّم."
وفي الجنوب، توثق عنف قوانين جيم كرو.
في هارلم، تكتب عن أوضاع السود ومعاناتهم تحت سلطة أصحاب عمل ومُلّاك يهود، وتقول:
"لماذا، في مفارقة ساخرة لكلا الطرفين، يجب أن يكون السود الفقراء في هارلم كيس اللكمات لليهود الذين نسوا قصة أسلافهم؟"
تُقرّ إيجيما أولو في المقدمة بأن هذه العبارات قد تكون جارحة، وتشرح:
"من دون السياق التاريخي، فإن تعميمات بيكر يمكن أن تسبب الأذى وتغذي التعصب ومعاداة السامية، وهو ما أعتقد أن بيكر كانت سترفضه بشدة… السلطة تقيّد الناس داخل هياكل تفوق البيض، وتحوّل العديد من المظلومين إلى وكلاء في قمع من كان يمكن أن يكونوا متضامنين معهم."
ومع ذلك، تظهر بيكر في أغلب النصوص كصاحبة حكمة غريزية وروح رحيمة. تقول:
"هل نحن مجرد حشرات بالنسبة لهؤلاء الأميركيين الطيبين؟"
وتعلّم قراءها الرقص، و"صناعة الوجوه المضحكة"، وتقول:
"المال لم يجعل أحداً يتوهج."
وتؤمن بأن الأطفال والحيوانات يمنحون الحياة معناها. وتكتب:
"هناك شباب دائم، حر وأبدي، رغم كل شيء... وهذا يكفي بحد ذاته."
وتختم برغبتها في مستقبل مفرّغ من القيود:
"أما المستقبل… فآمل أن نتمكن من أن نعيش عراة. هناك عدد قليل من النساء، وعدد أقل من الرجال، ممن يمكنهم العيش عراة، أن يظهروا عراة. هذا كل شيء."
* أعدت إيلاف هذا التقرير عن "ذا غارديان": المصدر
التعليقات