يؤدي تهجير المسيحيين القسري من قرى ومدن العراق إلى زيادة نسبة التصحر، من خلال شراء الأراضي الزراعية المسيحية ثم اهمالها أو تحويلها إلى مراع، ما يترك عواقب بيئة غير حميدة، إلى جانب التغيرات الديموغرافية التي تفرض على المناطق المسيحية هويات جديدة.
كولونيا: أكثر ما صدمنا في مدينة برطلة العراقية المسيحية العريقة هو مشاهدة لافتة كبيرة لمنظمة quot;بدرquot; الاسلامية، المعروفة بصلتها بالمجلس الإسلامي الأعلى في العراق، وبالنفوذ الإيراني بالعراق، مرفوعة على سياج كنيسة في المدينة. كان استفزازًا كافيًا لنا، نحن أصدقاء برطلة، فما أكبره من استفزاز للعوائل المسيحية التي تعيش منذ قرون في هذه المدينة المسالمة.
واللافتة، التي تصور مشهدًا من مواكب عزاء حسيني بالألوان ليست أكثر من تعبير عما يجري، وما يمكن أن يجري، في أحد أكثر زوايا العراق استقرارًا وأمنًا، أعني بها مناطق المسيحيين، إذ تكشف اليافطة عن تفاقم ظاهرة الاستيطان المنظم في المدينة، بهدف تغيير طابعها الديموغرافي خدمة لأجندات طائفية محلية وخارجية، وتشي من ناحية أخرى بحراك سلبي آخر قد يجر المنطقة بأكملها إلى نزاع دموي، هدفه تسريع دورات عجلة التهجير القسري، وصولًا إلى مناطق خالية من سكانها الأصليين.
تلاقح ثقافي
يفرح الناس وهم يتطلعون إلى لندن، وقد تحولت إلى عاصمة عالمية لمختلف الأجناس والثقافات، ويفتخر الاميركيون بحي بروكلين الذي تعيش فيه عشرات الأعراق بسلام. لكن أمثال هاتين المدينتين اكتسبت هويتها كلوحة تشكيلية ملونة، عبر عقود من السنين من التضحيات، ومن خلال التلاقح الثقافي التدريجي والتعايش السلمي، وليس من خلال طرد المكونات الأخرى وفرض الثقافة الواحدة والطائفة الواحدة، وبأسلوب منهجي هدفه تطفيش الناس وفرض الوحدة الطائفية والوحدة القومية.
تناول العديد من الاساتذة المحاضرين في المؤتمر عملية التغيير الديموغرافية في سهل نينوى من منظار السياسة والاقتصاد. وأجد لزامًا علي، باعتباري كاتبًا يهتم بالبيئة، تناول الجانب البيئي من الموضوع. لأن الإنسان ابن بيئته، وعلى هذا الأساس، لا يمكن فصل التغييرات البيئية عن الديموغرافية. ويمكن لرحيل الإنسان عن أرضه وبيئته أن يلحق أكبر الضرر بعناصر الأرض والجو والمياه، وهذا رغم أن الأمم المتحدة تعتبر الإنسان - والإنسان الصناعي خصوصًا - أكبر ملوث لهذه البيئة.
مزيد من التصحر
يمكن تلخيص عواقب فصل الإنسان المسيحي في العراق عن بيئته في ثلاث قضايا. تتلخص القضية الأولى في زيادة مخاطر التصحر الجارية بالعراق عمومًا، من خلال شراء الأراضي الزراعية في المناطق المسيحية ثم اهمالها أو تحويلها إلى مراع ومناطق سكن للجماعات الأخرى. إن ما يجري في برطلة، وفي مدن المسيحيين الأخرى بسهل نينوى، هو انتزاع المسيحيين من أراضيهم بمختلف الأساليب الملتوية وغير الشرعية، وإحلال الشبك، والشيعة منهم على وجه التحديد، مكانهم.
وعرض المحاضرون في مؤتمر أصدقاء برطلة العديد من الأساليب الملتوية التي حولت المدينة من مدينة مسيحية 100% قبل 30 سنة، إلى مدينة مسلمة شبه شيعية يشكل المسلمون 60% من سكانها اليوم، ويمنعون المسيحيين من الاحتفال بأعيادهم الدينية والقومية عندما تحل في أيام الحزن الشيعي، وما أكثرها. هذا يعني رحيل مزارعي الأرض ليحل محلهم أصحاب المهن الحرة والحرفيون والرعاة، ما يؤدي إلى تصحر الأراضي الزراعية من جهة، واهمال مصادر المياه في المنطقة، وخصوصًا الينابيع، من جهة أخرى. وهذا يؤدي بدوره إلى تغيير طبيعة النباتات البرية والغابات في المنطقة، خصوصًا أننا نعيش فترة اجتثاث الغابات، نتيجة التوسع السكاني.
من أين؟
لا يملك الفرد الشبكي، المقيم في القرى الصغيرة المحرومة من الخدمات الإنسانية، من المال ما يكفي لشراء ملابس عيد الأضحى لابنه الصغير، لكنه يظهر فجأة في برطلة، ويشترى عشرات الفدادين من الأرض، وبسعر يزيد أضعافًا عن السعر الحقيقي. وهكذا يجري خداع الفلاحين المسيحيين وانتزاعهم من أراضيهم، وبحيث لا يبقى من مفر أمامهم إلا الهجرة إلى المدن الكبيرة، أو السفر إلى الخارج.
وليس الإنسان هنا بحاجة إلى ذكاء كي يعرف مصدر هذه الأموال، التي استخدمت في شراء أراض زراعية شاسعة. سبق للدكتور كاظم حبيب، رئيس اللجنة التحضيرية العليا لمؤتمر أصدقاء برطلة، أن وجه رسالة صريحة إلى السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، يحمّل فيها المجلس وإيران مسؤولية تمويل هذه العمليات السخية. وهي نفس الجهات التي أهلت حزب الله اللبناني لدفع تعويضات بمليارات الدولارات إلى اللبنانيين الذين تضرروا في حروب هذا الحزب مع اسرائيل. والاعتراض هنا مضمر على مصادر وأجندات هذه التعويضات، وليس على نصرة المنكوبين بالطبع.
استغلال اقتصادي
أما الطريقة الأخرى والأسهل لتغيير الواقع الديموغرافي في برطلة وغيرها، فهي شراء الأراضي الزراعية بمبالغ خيالية من الدولة، بمعونة موظفين فاسدين، وهي أراض تحظر الدولة بيعها كأراض للاستيطان وللأغراض التجارية. ولا حاجة هنا للحديث عن مصادر هذه الأموال، لكن تكمن الاشارة إلى أن المال قد يسرّب هذه الأراضي إلى أيدٍ أخرى، بحجة بناء الشركات عليها في استغلال اقتصادي مفضوح، وهو غطاء آخر لعمليات التهجير الطائفية بهدف تغيير الواقع الديموغرافي في المنطقة.
المؤلم في الأمر، وهو ما جاء في تقرير كامل زومايا أمام المؤتمر، هو أن عمليات التهجير القسري للمسيحيين تضاعفت ثلاث مرات في زمن دولة القانون الحالية عنها في زمن دولة القانون الذي كان فرد واحد يعزف عليه، أي صدام حسين بين العامين 1968 و2003.
هوية جديدة
وتتمثل القضية البيئية الثانية في حلول الإنسان الجديد، وبالتالي الهوية والتقاليد الجديدة، محل القديمة التي ارتبطت بالأرض والإنسان. فالهوية الثقافية جزء من البيئة بحسب تقارير منظمة يونسكو، وخصوصًا عندما يتلازم الإنسان والبيئة لقرون طويلة، كما هي الحال مع الإنسان المسيحي المقيم في برطلة. ومن المتعذر فصل المسيحي عن كنيسته القديمة وعن مسقط رأسه، كما هو متعذر فصل المندائي عن منداه وعن مياهه من دون أن يترك ذلك ضررًا كبيرًا في البيئة والإنسان على حد سواء.
ونعرف أن التلوث البيئي الذي تسبب به الإنسان على المستوى العالمي أدى إلى ذوبان ثلوج القطب الشمالي، وإلى رحيل أعداد غفيرة من شعب الإنويت عن أكواخهم الجليدية، لكننا نعرف أيضًا أن غياب الإنويت أدى إلى غياب أنواع عدة من الحيوانات القطبية المتعايشة معهم، وإلى ندرة أنواع من الزهور الجليدية، وإلى جفاف العديد من مصادر المياه العذبة.
حق ثابت
أما القضية الثالثة المؤثرة في بيئة المنطقة، التي تمس حياة الشبك أكثر من غيرهم، لكنها تؤثر في كامل بيئة المنطقة وتحفز هجرة الشبك إلى المناطق المسيحية، فهي عدم منح مناطق سكن الشبك هوية ادارية من قبل الحكومات المتعاقبة، وهذا حق ثابت من حقوقهم. فحكومات ما بعد صدام واصلت سياسة الدكتاتور التي تحرم الشبك من حقوقهم، وتمهد بذلك لضرب مكونات المنطقة ببعضها.
فهناك مناطق سكن شاسعة، ويسكنها عشرات الآلاف، لم يتم فرزها في بلدات أو نواح وأقضية، وهو ما يحرم سكانها من الكثير من إجرءات الرعاية الصحية والمدنية والتعليمية والثقافية.
إن اتخاذ الاجراءات الإدارية التي تكفل للشبك حقوقهم المدنية ربما يسهم في وقف الهجرة إلى المناطق المسيحية، ويضمن لمناطقهم الاستقرار واستغلال الأرض، وتحسين التشجير، وتنويع مصادر المياه، وكل ما يوقف زحف الصحراء على المناطق الخصبة.
تخصيص الخدمات
حضر الشبك بكثافة في المؤتمر، وألقوا بلائمة ما يحصل ببرطلة على القرارات الادارية التي تحرم مناطق سكن الشبك من أبسط الحقوق الإنسانية، باعتبارها الدافع الرئيسي لهجرة الشبك من مناطقهم، إلى منطق يجدون فيها خدمات انسانية أفضل، كما قتل الكثير من الشبك على أيدي التكفيريين، وبلغ عددهم أكثر من 1200 قتيل خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية، وقيام نظام المحاصصة الطائفية في العراق.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن مؤتمر أصدقاء برطلة لم يوجه سهامه إلى الشبك، بل دعا إلى فرز مناطق الشبك كوحدات سكنية رسمية يؤهلها لنيل الخدمات التي تخصصها الدولة إلى القرى والبلدان والنواحي، كما دعا إلى عملية سلمية لوقف التغيير الديموغرافي، وتقليل عواقبه على الجهتين المتضررتين.
آن الأوان
منذ سنوات والمنظمات البيئية الدولية منشغلة بوضع الحلول لمشكلة الهجرة البيئية، الناجمة عن هجرة المتضررين من الكوارث والتصحر من الريف إلى المدن، لأنه سلاح ذو حدين، يفاقم تصحر المناطق الزراعية في القرى ومشاكل المدن البيئية المتعلقة بمصادر المياه والرعاية الصحية والتلوث. وربما آن اليوم أوان وضع الحلول لمشكلة البيئة المهاجرة، لأن الإنسان المهاجر يحمل بيئته معه دائمًا، وهو ما يؤدي، في برطلة مثلا، إلى اختلال بيئي خطير وعواقاب انسانية أخطر.
ويعرّف برنامج الأمم المتحدة للبيئة (نيروبي ١٩٨٥) quot;اللاجئين البيئيينquot; على أنهم الجماعات التي أجبرت على مغادرة سكنها التقليدي مؤقتًا أو بصفة دائمة، بسبب اضطراب واضح للبيئة، طبيعيًا أو بفعل تدخل الإنسان، وعرّض وجودهم للخطر، أو أثّر جديا على مستوى حياتهم. وآن الأوان أيضًا لفرض عقوبات دولية على الدول والجماعات والأفراد الذين يعرضون بيئة الآخرين للخراب.
التعليقات