انتهت فعاليات الحشد المسيحي الشرق أوسطي الكبيرquot;السينودسquot;، التي بدأت في العاشر من شهر تشرين الأول الماضي واستمرت أسبوعين في حاضرة الفاتيكان بحضور (البابا بنديكتس السادس عشر) ونحو مائتي من الأساقفة بينهم ثلاثة بطاركة مثلوا مختلف كنائس المشرق،وبمشاركة باحثين مسلمين وممثلين عن مرجعيات ومنظمات اسلامية شرق أوسطية،وشخصيات دينية(حاخامات) يهودية.التقوا جميعاً للوقوف على أسباب المخاوف والهواجس التي تقلق مسيحيي المشرق وتدفعهم الى هجرة وترك أوطانهم الأم،وللبحث عن سبل تخفيف معاناتهم والحد من هجرتهم.بانتهاء أعمال هذا السينودس وصدور quot;رسالته الإرشاديةquot; أو الوثيقة الختامية، التي تضمنت عشرات التوصيات،بدأ المهتمون بالشأن المسيحي المشرقي يتساءلون عن الجدوى من انعقاد هذا السينودس والنتائج العملية والخدمات الفعلية التي يمكن له أن يقدمها لمسيحيي المشرق ولقضيتهم المعقدة والشائكة.طبعاً،أنها أسئلة مشروعة ومبررة،خاصة وقد جاءت نتائج وتوصيات السينودس دون الحد الأدنى مما كان منتظر من هذا الملتقى الكبير ومخيبة لآمال معظم مسيحيي المشرق،المحاصرون بين أنظمة الاستبداد والتنظيمات الاسلامية الراديكالية المتطرفة الرافضة للآخر،والتي تسعى وتعمل لإقامة quot;الحكم الاسلاميquot;.

فيما أبدت الكثير من الأوساط المسيحية المشرقية استياءً شديداً من التوصيات المخجلة والهزيلة التي خرج بها السينودس،سارع الاعلام العربي وشخصيات سياسية ونخب عربية كثيرة،في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني( محمود عباس) الى الترحيب والإشادة بالمواقف الايجابية للمشاركين في هذا الملتقى المسيحي المشرقي من القضية الفلسطينية.الى درجة أن البعض وجد في الرسالة الختامية للسينودسquot; ثورة في الخطاب السياسي ndash; الدينيquot; للمجمع الكنسي الشرق الأوسطي ذات الطابع الكاثوليكي، تجاه موضوع الصراع العربي - الاسرائيلي وتجاه quot;المشكلة الفلسطينيةquot; تحديداً.حيث اعتبر السينودس في رسالته الختامية هذا الصراع ومضاعفاته من أخطر التحديات التي تواجه مسيحيي المشرق. كما وأنهم حملوا الصراع العربي/ الاسرائيلي مسؤولية هجرة، ليس مسيحيي فلسطين فحسب، وانما مسيحيي الشرق الأوسط عموماً.وقد حث المشاركون في أعمال السينودس quot;المجتمع الدوليquot; وquot;الأمم المتحدةquot; للعمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة بهذا الصراع في مقدمتها، اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة. من هنا، أرى أن الرسالة الختامية لـquot;ملتقى أساقفة المشرقquot; تصلح لأن تكون quot;بيان ختاميquot; لمؤتمر قومي عربي، وليس لـquot;ملتقى مسيحيquot;، ضم من مختلف القوميات والأعراق والاثنيات والكنائس المسيحية المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط وتركيا وايران(الكلدانية، القبطية، السريانية/السورية،الآشورية، الملكية اليونانية، والمارونية، والأرمنية).يفترض أن المشاركين في هذا الملتقى التقوا لتدارس مخاوف وهواجس مسيحيي المشرق والوقوف عند الأسباب الحقيقة لهجرتهم الواسعة والمخيفة من هذه المنطقة التي فيها ظهرت المسيحية ومنها انتشرت الى مختلف أنحاء العالم، وبحث سبل تعزيز وتحصين ما تبقى من وجود مسيحي في دول المشرق العربي الاسلامي.

أعتقد بأن المبالغة في تصوير الآثار السلبية للصراع العربي/ الاسرائيلي ومضاعفاته على مسيحيي المشرق، وتجاهل الأسباب الحقيقة لهجرتهم، من قبل المشاركين في هذا السينودس، تنطوي على نفاق سياسي وديني من جهة أولى.ومن جهة ثانية،هي تؤكد على أن غالبية المشاركين كانوا أسرى الخطاب القومي العربي والاسلامي الرسمي للدول التي قدموا منها.هذا quot;الخطاب الحكوميquot; الديماغوجي، الذي يأخذ من (الغرب واسرائيل) شماعة يعلق عليها مشكلة (الأقليات الدينية والاثنية والمذهبية) وجميع الإخفاقات السياسية والتنموية والعلمية للحكام العرب.

من المحزن لنا نحن أبناء الأقليات المسيحية المشرقية اللذين نعاني من مظالم الاستبداد السياسي والديني(الحكومي والمجتمعي)،أن يتماها خطاب أساقفتنا وبطاركتنا الأجلاء،في كل لقاءاتهم ومجالسهم، مع خطاب الحكومات والمرجعيات العربية والاسلامية،وأن يتعاطوا مع قضايا الأقليات المسيحية والاثنية، وكأنهم رهائن لدى حكومات بلدانهم وليسوا بممثلين عن هذه الأقليات التي ينتمون اليها،يفترض بهم أن يدافعوا عن حقوقها وحرياتها الدينية والقومية المصادرة من قبل حكومات الاستبداد.ما يعزز هذا الاعتقاد حول الدور السلبي لأغلبية المشاركين في هذا السينودس،الخبر الذي أوردته جريدة (الأخبار اللبنانية بتاريخ 26/ 10/ 2010 بقلم الكاتب الصحفي- جان عزيز)،والمتعلق بالاستنفار الذي حصل داخل السينودس، اثرا تقديم أحد الأساقفة ورقة أو مداخلة سميت بـquot;الوثيقة السريةquot; الى (أمانة سر المجمع) صاغها بلغة سياسية بعيدة عن مقتضيات المجاملة والتملق والنفاق.المداخلة تتعلق بالتحديات الأساسية التي يشكلها الاسلام والمسلمين على استقرار مسيحيي المشرق في أوطانهم.وتناولت موقف quot;الاسلام والعقيدة الإسلاميةquot; من عديد من القضايا الحساسة التي تهم المجتمعات المسيحية،مثل وضعية المرأة، وكيفية تعاطي المسلم مع المسيحي، ومسألة الناسخ والمنسوخ في الآيات التي تحاكي غير المسلمين، وخصوصاً أهل الكتاب، وصولاً إلى مسائل الجهاد والقتل والحريات الدينية في الإسلام،ويختم صاحب الورقة مداخلته بالتساؤل،عن جدوى (الحوار الاسلامي/ المسيحي) في ظل تعصب وتزمت المرجعيات الاسلامية.ويضيف الخبر:quot; بمجرد تسرب مضمون الورقة اتصل مسئولون كباراً، من أكثر من دولة عربية وإسلامية، بمشاركين في السينودس، طالبوا بسحب تلك الورقة المثيرة، وقد تحقق ما أرادوه وسحبت الورقة من التداول ومن الموقع الالكتروني الخاص بالسينودس.

من غير أن نقلل من أهمية وعدالة القضية الفلسطينية ومن مخاطر الاحتلال الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه. لكن أعتقد بأن التحديات التي تواجه quot;مسيحيي العراقquot; اليوم لا تقل عن مخاطر الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينين،ان لم تفوقها. سبعة عقود من الاحتلال لم تقض على الوجود الفلسطيني. لكن سبعة أعوام من الفلتان الأمني والسياسي والصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية، بين شعوب وأقوام العراق، قضت أو كادت أن تقضي على أكثر من مليوني مسيحي عراقي،معظمهم من (الكلدوآشوريين) سكان العراق الأوائل، من غير أن يكونوا متورطين في هذه الصراعات.صحيح أن الاحتلال الامريكي يتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية عن المشهد الدامي في العراق. لكن الصحيح أيضاً،أن المسيحيين يقتلون،فقط لكونهم مسيحيون، بأيدي quot;مجموعات اسلاميةquot; عراقية وغير عراقية.المجزرة الفظيعة التي حصلت للمصلين والكهنة يوم الأحد الماضي 31-10-2010،أي بعد أيام قليلة من انتهاء فعاليات السينودس، داخل كنيسة سيدة النجاة وسط بغداد،تؤكد مجدداً على طبيعة ومصدر الخطر الحقيقي الذي يواجه ليس مسيحيي العراق فحسب، وانما مسيحيي المشرق العربي الاسلامي عموماً.فهذه المجزرة المروعة يمكن لها أن تتكرر في أية كنيسة مشرقية اذا ما تمكنت منها التنظيمات الاسلامية المتشددة والمجموعات الارهابية العابرة للحدود والقارات،مثل quot;القاعدةquot; وquot;أنصار دولة العراق الاسلاميةquot;، التي تبنت مذبحة كنيسة سيدة النجاة،وهددت بتفجير كنائس الأقباط في مصر.

لا شك،أن محنة مسيحيي العراق ومصر والمشرق عموماً هي أكبر وأعقد من أن يعالجها سينودس أو ملتقى ديني هنا وهناك توصياته وقراراته غير ملزمة لأحد.وهي أعمق من أن تخففها وتحد منها بيانات الإدانة والاستنكار.لكن في ظل تلكؤ وتقصير النظام المصري في حماية المواطنين الأقباط وتواطؤ أجهزته الأمنية مع المجموعات الاسلامية المتشددة التي تستهدفهم، ومع تفاقم محنة مسيحيي العراق،حيث يرقى العنف الممنهج ضدهم في بعض فصوله ومحطاته الى مستوى quot;جرائم الابادة الجماعيةquot;،وإخفاق حكومات العراق الجديد في حماية الأقلية المسيحية المستضعفة، أو بالأحرى أنها غير راغبة وغير جدية في توفير الحماية الوطنية لها،ومع تفكك الدولة العراقية ووصول تجربة quot;التعايش الوطني quot;بين شعوب وأقوام هذا البلد(العراق) الى نهايتها،إزاء هذه الأوضاع، كان المنتظر أن يعمل ويتحرك سينودس أساقفة المشرق،عبر لجان خاصة تنبثق عنه تضم رجال دين كبار وشخصيات مدنية وخبراء بالقانون الدولي،على خط quot;تدويلquot; قضية مسيحيي العراق أولاً، وتدويل قضية أقباط مصر ثانياً.وكان المنتظر أيضاً، أن يطالب السينودس من quot;الأسرة الدوليةquot;،مثلما طالب للفلسطينيين، ببعض الاجراءات والتدابير العملية والفعالةquot;منطقة آمنةquot; لحماية ما تبقى من مسيحيين في مناطقهم التاريخية داخل العراق،أسوة بما فعله المجتمع الدولي لأكراد العراق عام 1991. لكن للأسف شيء من هذا لم ولن يحصل.

لهذا،أرى أن سينودس أساقفة الشرق الأوسط،بنتائجه المحبطة و بتوصياته المخجلة، عمق هواجس مسيحيي المشرق وضاعف من مخاوفهم وزاد من مشاعر الاحباط واليأس لديهم.فقد باتوا على يقين تام بأنهم تركوا وحدهم وسط quot;العاصفة الاسلاميةquot; لمواجهة الموت والمصير المجهول الذي ينتظرهم في مجتمعات انتهت أو كادت أن تنتهي تجربة quot;العيش المشتركquot; بين شعوبها ومكوناتها(العراق،مصر،لبنان، تركيا،ايران، السودان،الذي يستعد لفصل الجنوب الغير مسلم عن الشمال المسلم).

سوريا
باحث مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]