كلي ثقة بأن شاعرنا الخالد أبو الطيب المتنبي لم تك مشكلته الأساسية واشكالياته الكبرى في الاختلاف والصراع الا مع الكلاب المصابة بالجرب او المكلوبة منها والتي طالما كانت تلاحقه وتلاحق امثاله لحد يومنا هذا، ولعله كان دقيقا اكثر من أي وقت آخر في تنبؤاته الشعرية حينما يصف الرد على تلك الكائنات المصابة بالجرب الأخلاقي او المكلوبة بأزمتها الفكرية وضآلتها في واحد من اجمل ما كتب من شعر مكثف في هذا البيت حين قال:

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينارِ

وندع شاعرنا الكبير وزمنه الخلاب لنرتحل عبر ذات الفلسفة الى عصر اخر يتواصل فيه الصراع وتتناسل فيه ذات الاصوات مستخدمة اليات زمنها الحاضر والغابر، فنتوقف قليلا عند ضفاف الحكمة مع فضيلة الشيخ الكريم الدكتور عائض القرني* في ما ذهب اليه وهو يوقد سراج الحكمة وينير دروب الظلمة حينما يتعامل مع صدى ذلك العواء الذي أبى المتنبي أن يلقمه حجرا فقال القرني:

(وأنت إذا ذهبت تدقق خلف كل جملة وتبحث عن كل مقوله قيلت فيك وتحاسب كل من أساء إليك، وترد على كل من هجاك، وتنتقم من كل مَنْ عاداك، فأحسن الله عزاءك في صحتك وراحتك ونومك ودينك واستقرار نفسك وهدوء بالك، وسوف تعيش ممزقاً قلقاً مكدراً، كاسف البال منغص العيش، كئيب المنظر سيئ الحال، عليك باستخدام منهج التطنيش، إذا تذكرت مآسي الماضي فطنش، إذا طرقت سمعك كلمه نابيه فطنش، وإذا أساء لك مسيء فاعف وطنش، وإذا فاتك حظ من حظوظ الدنيا فطنش، لأن الحياة قصيرة لا تحتمل التنقير والتدقيق.. )

حتى لكأنك وانت تقرأ وتتمعن في معاني الكلام ما بين الأسطر، يطرق مسامعك صدى كلمات شاعرنا الخالد أبو الطيب ثانية وهو يقول:

فعشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي

لسنوات طويلة ربما زادت على نصف قرن، شاعت ثقافة بائسة اعتمدتها الأنظمة الدكتاتورية وأجهزتها الخاصة في التسقيط والتشهير وصناعة الاخبار والسيناريوهات المفبركة ضد الآخر المختلف والمعارض رأيا كان أم حركة وسلوكا، حتى غدت البلاد مطحنة تسحق الأخضر واليابس تحت عجلات اجهزة الاعلام وادواتها العنصرية تارة وتارة أخرى المذهبية المقيتة ضد الأفراد او الجماعات، وقد تعرضت كل الاحزاب المعارضة الوطنية والديمقراطية وافرادها قيادات وقواعد الى تلك العمليات القذرة في الملاحقة والتشويه والتشهير حتى غدت سلوكا منظما يتبعه النظام الدكتاتوري حتى مع قياداته واداراته.

لقد استخدمت هذه المخلوقات البذيئة شتى انواع التشهير والفبركة والتهجم من خلال اشاعة وترويج الدعايات والنكات التي تسخر من عرق او قوم او طائفة للانتقاص منها* ومن ثم تلفيق الاتهامات المفبركة وتركيب الصور والافلام والوثائق باستخدام آليات العولمة وادواتها وحيلها الصورية من اجل مآربها المعروفة منذ استحواذها على السلطة في غفلة من الزمن وحتى يومنا هذا، مستخدمة إيديولوجيتها الميكافيلية لا يمنعها في ذلك أي وازع اخلاقي او وطني او اجتماعي من اجل تحقيق اهدافها، وقد شهدنا جميعا ماذا كانت تفعل اجهزة النظام السابق الحزبية والأمنية بأفراد المعارضة من الاحزاب الوطنية او الشخصيات المستقلة من المفكرين والأدباء والفنانين والكتاب والصحفيين وعموم المثقفين المصنفين بعدم الولاء للحزب والثورة، بحيث لم ينج أي واحد من هؤلاء من تلك الهجمة البدائية المتخلفة.

حقا إن المتنبي كان واثقا من نفسه بل وربما محقا حينما ارسل اشارات شعرية بليغة لزمن قادم بعد مئات السنين وهو يخاطب تلك السلالات من الكلاب المسعورة التي توالدت وتكاثرت في ظل انظمة فاسدة وانهيار ادبي واخلاقي يوازي افعالها وسلوكياتها، بحيث يتركها تعوي حتى تنهش نفسها وتتلاشى كفقاعات الصابون او مناطيد الصغار لتبقى الشمس كما هي لا يدنسها لوث او عواء، ويزين سماواتها صدى كلمات ومعاني شاعرنا المتنبي ابدا:

انام ملئ جفوني عن شواردها ويسهرُ جراها الخلق ويختصمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* راجع مقال حول ذات الموضوع للدكتور عبدالخالق حسين في موقعه:
http://www.abdulkhaliqhussein.com

* هو الشيخ الدكتور عائض بن عبدالله القرني داعية إسلامي من السعودية،وصاحب كتاب لا تحزن الذي حقق نسبة مبيعات عالية وهو صاحب منهج وسطي لأهل السنة والجماعة. له اكثر من 37 كتاب ومؤلف وثمانمائة محاضرة مسجلة في مختلف العلوم والاداب والتفسير والفقه.