التصريحات ألأخيرة التي أطلقتها ( الرفيقة المناضلة ) بثينة شعبان المستشارة السياسية و الإعلامية في رئاسة الجمهورية العربية السورية و المتعلقة بخشيتها و خوفها من تعاظم المد الديني في بلدها ( سوريا ) و طلبها من البعثيين هناك أن يكونوا ( قدوة ) للمجتمع!! و لم تنس الرفيقة بثينة أن تتطرق لنقطة جوهرية صدقت كل الصدق في الإحاطة بها بقولها إن تعاظم المد الديني ( الأصولي ) قد جاء بسبب فشل حزب البعث و ليس بسبب نجاح الآخرين!!،
ولعل هذا التحليل أي الفشل يفسر جانبا كبيرا من المأساة التي عاشتها الشعوب العربية التي وقعت ضحية لحكم نظام حزب البعث العربي الإشتراكي و تحديدا شعبي العراق و سوريا، فأجيال كثيرة وواسعة من هذين الشعبين لم تعرف نظاما للحكم و للتربية الإجتماعية و السلوكية و الأخلاقية إلا من خلال حزب البعث العربي الإشتراكي، ففي العراق وهو البلد الذي يضم طوائفا و مذاهب و أديان و إثنيات مختلفة كان البعثيون يديرون البلد بأسره منذ ستينيات القرن العشرين و حتى أوائل القرن الحادي و العشرين و أكاد أجزم بأنه لولا الإحتلال العسكري الأمريكي المباشر في 9 نيسان / إبريل 2003 لأستمر نظام البعث إلى ما شاء الله دون ريب، لأنه قد تمكن بآلته القمعية و تحالفاته الدولية و الإقليمية من إخضاع الشعب بالكامل، بل و أنه يا لسخرية الأقدار وهو الحزب العلماني حتى النخاع قد تحول في أخريات سنواته في العراق لحزب قريب من الأصولية التي تغازل معها بشكل وثيق جدا من خلال الإجراءات الإدارية و القانونية التي هيكلت الدولة العراقية إعتبارا من مرحلة الإنكفاء التام بعد الهزيمة في الكويت عام 1991 و من ثم تحول النظام بأسره لتبني حالة صوفية و إيمانية تمثلت بالقوانين ( الإيمانية ) التي صدرت عام 1994 و التي أعادت العراق للخلف لعقود طويلة، كما سمح النظام العراقي للجماعات الدينية السلفية بان تظهر للعلن بعد أن كانت محظورة في السابق دون أن ننسى [انها سمحت لمجاميع كثيرة من عناصرها بأن تدخل الحوزة الدينية ( الشيعية ) بعد أن سمحت بنشاطات المرجع الديني محمد محمد الصدر و الذي ضاقت ذرعا به فأغتالته فيما بعد عام 1999!، فكانت مكافأة من يحفظ القرآن الكريم من السجناء مثلا العفو و إطلاق السراح!! كما أن خطابات الرئيس السابق صدام حسين كانت حافلة بالعبارات الدينية!!، وفرضت قيود كبيرة و غريبة على الملاهي و الكازينوهات و اماكن اللهو و الترفيه بل إمتدت قيود المنع في سنوات النظام الأخيرة لتشمل حتى منع صناعة الحلويات!!
في حالة غريبة غيرت شكل و طبيعة حزب البعث و الذي هو أصلا حزب لم يتميز بوجود مفكرين و فلاسفة حقيقيين بقدر ماكان حزبا سلطويا أداته القمع وحده، فالثقافة و البعث صنوان لم يجتمعا و حتى و إن إجتمعا فمصير الثقافة دائما الإنحدار و التواري الذي يصل لحد الإعدام لرموزها، حزب البعث لم يبرز في تاريخه الطويل منذ عام التأسيس 1947 أي مثقف حقيقي في صفوفه، وحتى ميشيل عفلق و الياس فرح لم يكونا يتميزان يثقافة عربية إسلامية حقيقية بل أن كتاباتهما مجرد تهويمات عائمة هي خليط من الماركسية و القومية و بعض النتف الدينية!، مثقفو البعث العراقي مثلا كان مصيرهم أسود على الدوام على العكس من ( بلطجية ) و ( شقاوات ) الحزب، فمن يتذكر مثلا الدور الفكري للمرحوم القيادي عبد الخالق السامرائي الذي أبعد عن الحزب عام 1973 و أعدمه صدام عام 1979؟ من يعرف بعزيز السيد جاسم الذي إختفى عن الوجود في تسعينيات القرن الماضي؟ أين توارى الشاعر و المثقف و الرسام شفيق الكمالي؟ و هو الذي كتب النشيد الوطني السابق و الأخير لنظام صدام ( وطن مد على الأفق جناحا و أرتدى مجد الحضارات وشاحا )؟، لقد عومل بإحتقار و نبذ ثم أنتهى بعزلة تامة و في ظل قمع رهيب!
لقد أكلت مؤسسة البعث القمعية و الإرهابية رجالها من القلة المثقفة إلى الدرجة التي طغى فيها مثلا صيت و سيرة أمي و جاهل و متخلف و قمعي مثل علي كيمياوي و رفاقه وطبان و برزان و سبعاوي و غير تلك الأسماء الغريبة على مسرح التاريخ البعثي، لقد تحدث المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العراقي الذي عقد عام 1982 و في أدق مرحلة من مراحل الحرب العراقية / الإيرانية حينما كانت الجيوش الإيرانية تتجمع في شرق البصرة لتحاول إحتلال العراق و إسقاط النظام بعد أن فشلت الجيوش العراقية في فرض إيقاف الحرب و تحولها للعمق العراقي وقتها عن الظاهرة الدينية و التي تصدى لها الحزب بالوسائل القمعية منذ أيامه ألأولى و تحديدا في عام 1969 حينما شن أحد كبار مجرمي و جلادي نظام البعث وهو ناظم كزار جلاد قصر النهاية المعروف حملته على كل القوى الوطنية العراقية بدءا من البعثيين اليساريين ( الخط السوري ) و القوميين الناصريين ثم الشيوعيين و كان معهم أيضا قلة قليلة من الحركة الدينية بشقيها الشيعي ( عبد الصاحب دخيل ) و السني ( عبد العزيز البدري )، ثم تطورت المواجهة الخجولة مع الإسلاميين و التي كانت تحمل صفات و تسميات غريبة فالأدبيات البعثية كانت تتحدث عن ما يسمى بالحزب الفاطمي!! و المقصود حزب الدعوة الإسلامية الذي كان متواجد في الساحة منذ عام 1957، وحمل عام 1974 أنباء إعدام مجموعة من الإسلاميين و إعتقال المئات منهم و أتذكر أن أحد المعتقلين كان أستاذي في متوسطة ( النضال ) في البصرة للغة العربية و كان إسمه ( هاشم ) إختفى فجأة ثم إلتقيته بعد أعوام و تحديدا عام 1980 و كان ( مجنونا ) من شدة التعذيب الذي تعرض له!!، أي أن الحوار البعثي الوحيد الذي لجأ إليه البعثيون هو حوار الدم و الإفراط في القمع الذي لم يوفر أي حصانة حقيقية لا للمجتمع و لا للنظام، فإفلاس الفكر البعثي هو حالة حقيقية و معاشة، لذلك سادت أجواء المؤامرات و الحروب و المغامرات و كل إجراءات النظام الثقافية لم تتعد الظاهرة السطحية، فالدعوة مثلا لإعادة كتابة التاريخ التي تبناها صدام حسين أفرزت ظاهرة تقديس القائد و عبادة الفرد و إعادة الفكرة النازية الغربية بأزياء عربية مع بعض البهارات الدينية، ففي مقابل النسر الألماني الشهير برز النسر أو الصقر العربي، وفي مقابل الرايخ النازي الذي لا يموت و الذي سيمتد لألف عام كما قال ( جوزيف غوبلز ) وزير الإعلام و الدعاية النازية، ظهرت النسخة العراقية البعثية له ( ولكن بشكل مهتريء و بائس ) من خلال الوزير الذي كان لطيف نصيف الدليمي و الذي أبرز أن صدام حسين هو إمتداد للملك البابلي الأسطوري ( نبوخذ نصر )!! أو كما تقول الأغنية التمجيدية وقتذاك ( نبوخذ نصر شيد بيت وعلاه كف صدام حسين )!!
و كان الخواء الفكري و الثقافي هو عقيدة النظام الوحيدة حتى يوم إنهياره النهائي بعد الإحتلال و حيث تبخر الجيش و أنهارت الدولة و تفكك الحزب وظهرت الأصوليات الشيعية و السنية التي أضحت الملاذ الأخير للعديد من البعثيين الذين كانوا يعيشون في نظام أساسه القمع و الوهم الكبير.
أما البعث السوري فالأمر لا يختلف كثيرا إلا في بعض المعطيات الخاصة بالحالة السورية، فالحزب يحكم سيطرته الأمنية و القمعية أيضا و بموجب قوانين الطواريء ألأزلية منذ 8 مارس 1963 بدون إنقطاع، ظل إسم حزب البعث خلالها هو الحاكم رغم تغير الأسماء و القيادات و حتى بعض السياسات، ولكن سوريا تتميز بوجود قوي و تاريخي لجماعة الإخوان المسلمين المتجذرة في عمق النسيج الإجتماعي السوري، وكانت مواجهات عام 1964 بين البعثيين و الإخوان الدموية هي الإختبار الأول للقوة، فنظام البعث السوري كان يعاني من صراع القيادات خصوصا بعد أن جاء حكم اللجنة العسكرية اليساري المراهق في طوره الأول و الذي إعتمد كشقيقه البعث العراقي على القمع المفرط من خلال العقيد عبد الكريم الجندي و حكم الأقلية الطائفية المغطى بالرتب العسكرية حتى تمكن حافظ الأسد في نهاية المطاف من تصفية الجميع رغم كونه كان أضعفهم و لكنه أكثرهم دهاءا من الناحية التكتيكية المحضة، وكان صراع البعث السوري الأزلي مع الإخوان المسلمين ثم مع التيارات الشيوعية المتطرفة طبعا دون أن ننسى الخلافات العميقة جدا و الشخصية مع قادة البعث العراقي و التي عن طريقها سنحت الفرصة للإخوان المسلمين لمعاودة النشاط المضاد و لشن حملة واسعة جدا من الإغتيالات أواخر السبعينيات و بداية الثمانينيات وحيث دخلت سوريا فيما يشبه الحرب الأهلية بلغت الذروة مع مواجهات مدينة ( حماة ) عام 1982 و التي راح ضحيتها آلاف المدنيين و لكن النظام تمكن من حسم المعركة لصالحه نهائيا بسبب السياسة الأمنية المركزية و الإعتماد على فروع المخابرات المختلفة التي مكنت النظام من الإمساك بقواعد السلطة رغم رحيل قائد النظام حافظ الأسد ورغم الخلافات الداخلية مع الشقيق رفعت الأسد إلا أن الغلبة كانت لمن يحكم خصوصا بعد أن تمت تصفية أهم مركز قوة ساهم في ترسيخ النظام وهم تشكيل ( سرايا الدفاع ) بعد عام 1984، ولكن رغم كل شيء فإن الشارع السوري معروف بطابعه الإسلامي خصوصا و إن الجماعات الإسلامية هناك تتواجد شعبيا بشكل واضح من خلال المدارس الدينية و رغم حالات الإنشقاق في مؤسسة النظام الأمنية و السياسية إلا أنه إستطاع البقاء بل و التوريث في ظل موازنة عسكرية هشة للغاية مع إسرائيل،و لكن يبدو واضحا إن النظام فيما لو تسنى له السقوط لأي سبب من الأسباب فلن يكون البديل سوى الإخوان المسلمين أو التوجهات الدينية عموما، فالنظام البعثي السوري كشقيقه العراقي أجهز على كل المكونات السياسية العصرية و الحضارية وحارب أهل ربيع دمشق و طارد الأصوات الليبرالية و كل من حوله اليوم هم من بقايا البعث المتخشب الذين يهربون عند أول نازلة أو كارثة، و الغرب يعلم جيدا هذه الحقيقة و يحرص بالتالي على إدامة النظام لأنه لا يتحمل طوفان الأصولية المدمر الذي سيجتاح الشام لا محالة فيما لو إنهار البعث السوري، إنهيار البعث العراقي الكارثي فتح علبة الشياطين في بغداد على إحتمالات و خيارات مرعبة وهو الأمر الذي لا يريدون إعادة تكرار سناريوهاته في دمشق !
ولكن بصرف النظر عن ما جرى أو ما سيجري فإن إفلاس نظام البعث هو الكارثة الحقيقية التي فتحت بوابات الجحيم في المنطقة.. تلك هي الحقيقة الخالدة و المعروفة.. الديكتاتورية لا تنجب سوى الكوارث!
التعليقات