كان صعيد مصر فى الآونة الأخيرة، مصدرا للأحزان. شباب، مثل إبنى وإبنك، يسقطون صرعى فى ليلة العيد برصاص الغدر، اعتداءات وحرق ونهب وضيقات متنوعة، طالت الأقباط على وجه الخصوص، وسيول جرفت فى اندفاعها مأوى ومستقر غلابة المصريين من مسلمين ومسيحيين.
ولكن انفتحت فى وسط هذه المآسى، كوة صغيرة، سمحت بمرور شعاع من ضوء، و نسمة من هواء، رفعا قليلا من المعنويات التى كانت قد هوت إلى الحضيض.
انعقد فى أسوان، فى الفترة ما بين 1-4 فبراير، المؤتمر الدولى الخامس لمؤسسة القديس مرقس لدراسة التاريخ القبطى، وكان موضوعه quot;تاريخ المسيحية والرهبنة فى أسوان والنوبةquot;.
واشترك فى المؤتمر، بأوراق بحثية، علماء قبطيات بارزون من كافة أنحاء العالم، ومن مختلف الجنسيات؛ من أمثال فلاديمير جودلفسكى، كارل إنميي وجاك فاندرفيل. بالإضافة إلى الوجوه المصرية التى تبعث على الفخر: فى المقدمة كالمعتاد، نجما المصريات والقبطيات، د. أشرف صادق (ابن الصعيد)، ود. جودت جبرة (ابن أسوان بالذات). ومعهما د. سامى صبرى، د. عادل فكرى، د. عاطف نجيب، د. يوحنا يوسف، د. صمويل معوض ود. مارى كوبليان.
وشارك رجال الدين بحصة طيبة ، فكان من ضمن المتحدثين نيافة الأنبا هدرا ونيافة الأنبا مارتيروس، الأب وديع أبو الليف، الآباء بيجول السريانى وأنجيلوس النقلونى.
وتمحورت الأوراق المقدمة حول تاريخ المسيحية فى بلاد النوبة، والذى امتد لفترة تقرب من الألف عام ابتداء من القرن الرابع الميلادى، وحول عمارة وفنون النوبة المسيحية، التى للأسف لم يبق منها الكثير بعد أن غمرت مياه بحيرة ناصر معظم آثار النوبة. وتم التعريف بأماكن لها أسماء طريفة ( لم أسمع شخصيا بها من قبل) مثل دير قصر الوز، كنيسة عبد الله نرقى، وقصر إبريم ( المنطقة الوحيدة التى لم تغرقها مياه السد العالى).
كما اشتملت الأبحاث على المسيحية فى جزيرة فيلة ومعبدها الذى تم إنقاذه، المسيحية فى كوم أمبو، حاجر إدفو ومخطوطات دير الأنبا باخوميوس التاريخى. البعد الروحى فى النوبة ومصر العليا. بالإضافة لتاريخ المسيحية فى أسوان، أهم أديرة أسوان الأثرية: دير الأنبا هدرا السائح ودير قبة الهواء وكنيستيهما. وكذا معبد إيزيس بأسوان والذى تحول إلى كنيسة كرست غالبا باسم السيدة العذراء مريم.
ومن الماضى سار بنا المتحدثون إلى الحاضر والمستقبل. فاستعرض نيافة الأنبا هدرا التاريخ الحديث لأبراشية أسوان، وتكلم عن المراحل المثيرة التى سبقت اكتمال كاتدرائيتها المعاصرة الفخمة.
وكذا ألقى الضوء على محتويات وأنشطة متحفى النوبة وأسوان. وعرضت تفاصيل مشروع هام خاص بالترميم المعمارى لدير الأنبا هدرا، ولرسومه الجدارية.
وتوفر للحاضرين كتاب quot; تاريخ المسيحية وآثارها فى أسوان والنوبةquot; من تأليف الأستاذ نبيه كامل ود.عاطف نجيب، ومراجعة د. جودت جبرة. وهذا الكتاب هو الإصدار الأول لمؤسسة القديس مرقس فى سلسلة تاريخ المسيحية وآثارها فى أبروشيات مصر.
وفى حفل الافتتاح، رحب نيافة الأنبا هدرا مطران أسوان ود. فوزى اسطفانوس رئيس جمعية مار مرقس بالضيوف ، الذين كان فى مقدمتهم اللواء مصطفى السيد محافظ أسوان، عدد من الآباء الأساقفة يضم نيافة الأنبا سرابيون الذى قدم من لوس أنجلوس للمشاركة فى هذه الاحتفالية فى مسقط رأسه أسوان، نيافة الأنبا مارتيروس، نيافة الأنبا بيمن، نيافة الأنبا شاروبيم ونيافة الأنبا تومس. وكذا حضر الكثير من ممثلى القيادات الأمنية والتنفيذية والشعبية بالمحافظة ورجال الدين المسيحى والإسلامى.
وتضمن الحفل عرض بانورامى وترانيم وألحان، بذل أبناء وبنات المحافظة جهدا فائقا فى إعدادهم وتقديمهم. وأعقب ذلك كلمات من المسئولين عن المؤتمر ومن كبار الحاضرين.
أما إقامتنا فقد كانت فى جوار دير الأنبا هدرا الأثرى فى quot;قلاياتquot;حديثة مزودة بكل وسائل الراحة، ليس بها شىء من تقشف وحرمان القلايات الأثرية، ولا تشابها إلا فى تصميمها المعمارى المتميز، وفى وقوعها فى وسط الصحراء، فى رحاب الدير المقدس.
وعرفنا أن هذه المبانى لم يتم الفراغ منها إلا فى الساعات القليلة التى سبقت وصول المشاركين فى المؤتر. ففى سباق مع الزمن، أمكن التغلب على المعوقات الكثيرة، وبعمل بطولى شارك فيه أبناء أسوان من الرجال والنساء، بل والأطفال، تطوعا وبتعب المحبة، استوت هذه الأبنية النظيفة الجميلة، فاتحة أبوابها للترحيب بالضيوف.
أما الأنشطة العديدة والرائعة التى كانت على هامش المؤتمر، فلا أعرف كيف أمكن للمنظمين إيجاد الفرصة لها وسط الجدول الأكاديمى المكثف! ولكن الفرصة قد أوجدت، وبالتاكيد لم يضعها أحد من المشاركين ؛ فكانت قائمة الاستمتاع طويلة:
فى الصباح الباكر لأول يوم، استهللنا المؤتمر بقداس إلهى فى الكنيسة الأثرية لديرالأنبا هدرا. جو روحانى عجيب فى هذا المكان الذى يخلو من أى نوع من الاستعدادات أو الأثاث أو الأبسطة. جدران مهدمة ونقوش جدارية شبه ممحوة، لا سقف ولا أعمدة؛ ورغم ذلك فالإحساس بأنك فى كنيسة، وبأن ما تتناوله هو الأسرار المقدسة، أقوى ما يكون.
زيارة للسد العالى ولرمز الصداقة المصرية السوفيتية، الذى يمكن من قمته رؤية منظر خلاب للنيل وأسوان.
زيارة لكاتدرائية أسوان الحديثة ( كاتدرائية رئيس الملائكة ميخائيل).
زيارة لمتحف الحضارة النوبية الذى يحوى كنوزا لما أمكن المحافظة عليه من خلال المسوحات والبعثات الأثرية للنوبة. وفيه رحب مدير المتحف بالحضور، وأخذهم د.عاطف نجيب فى جولة فى أنحائه.
عرض الصوت والضوء فى معبد فيلة الأسطورى.
جولة حرة للتسوق فى مدينة أسوان.
الاستماع لفريق كورالquot; الكاروزquot; الرفيع المستوى، التابع لمطرانية أسوان، والذى يقوده طبيب الأسنان مجدى أخنوخ. وكذا مشاهدة الفيلم المؤثرعن استشهاد الأم دولاجى وأولادها.
بدعوة من رجل الأعمال المهندس منير غبور، الذى شارك فى المؤتمر، استمتع كل الحاضرين بجولة نيلية ساحرة، مصحوبة بالعشاء، على متن أحد بواخره الفخمة. وكذا تلقى المشاركون دعوة للعشاء، المصحوب بعرض للفنون الشعبية المميزة لأسوان والنوبة، من أحد أكبر الفنادق بمدينة أسوان.
ولكن أهم الزيارات كانت لديرى أنبا هدرا السائح ودير قبة الهواء؛ أو بدقة أكثر- وياللأسف- لأطلالهما.
ولكن ما تبقى من أبنية ديرالأنبا هدرا، ما زال يدل على أهمية كنيسته من الناحية المعمارية، وعلى قيمة حصنه الذى يعد أكثر أمثلته تطورا، وكذا شواهد قبوره وقمائن الفخار فيه، والتى لا غنى عنها فى الدراسات التاريخية.
أما أطلال دير قبة الهواء، فهى تستحق جهد تسلق التل الذى يتربع على قمته. فبقايا كنيسته تحتوى على آثار تصاوير جدارية ما زالت بديعة، رغم اندثار معظمها، ورغم تشويهها المخزى بالجرافيتى من quot;شخابيطquot; أبناء غير بررة استهانوا بتراثهم العظيم.
واختتمت أعمال المؤتمر بالتوصيات التى تقرر إرسالها إلى د. زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار. وتمركزت التوصيات حول مشروعات ترميم ديرى الأنبا هدرا وقبة الهواء، وحمايتهما من التآكل والتحلل الذى ينخر فى أساساتهما، ويدمر جدرانهما، ويمحو رسومهما الجدارية التى لن تعوض.
إذا، فقد كان المؤتمر مصدرا للفائدة والمتعة لكل من شارك فيه، متحدثا أو مستمعا. ولكن لا مفر من التساؤل إن كانت هذه المؤتمرات تحقق الأهداف الطموحة لجمعية القديس مارمرقس؟
الجمعية التى تعمل بدأب، تحت رعاية قداسة البابا شنودة، وبقيادة الشخصية الفريدة: د. فوزى اسطفانوس، نجحت فى أن تقيم خمسة مؤتمرات من عام 2002 حتى الآن؛ فكانت البداية فى وادى النطرون، ثم الفيوم عام 2004، وبعده سوهاج وإخميم عام 2006، ثم نقادة فى 2008، وانتهاء بأسوان والنوبة. حيث تركز الجمعية جهودها على منطقة معينة فى ربوع مصر، لتسلط الضوء على تراثها القبطى، وتعمل على تسجيل وتوثيق المعلومات عنه، ونشرالأبحاث المتعلقة به ، ثم البعث بالتوصيات لمن بيدهم الأمر،أملا فى أن تجرى فى الموقع الحفريات المطلوبة، أو أن يحظى بالترميم والإصلاح الذى عادة ما يحتاجه بشدة.
فالخلاصة: الهدف هو الحفاظ على التراث الحضارى القبطى ، وتعريف المصريين والعالم الخارجى به. هدف عظيم ونبيل، يصب فى مصلحة مصر وأبنائها ككل، وليس الأقباط فقط. فبالإضافة للفوائد العلمية، وتوثيق التاريخ المصرى، فكل عالم أجنبى من زوار مصر، هو سفير لها فى بلاده، وكل طل من أطلال الأديرة والكنائس التى تزخر بها مصر، يصلح لأن يكون مركز جذب سياحى، لو عومل باحترام وتقدير، ولو توفرت له الحماية والرعاية.
ولكن- للأسف الشديد- فإن الرسالة الهامة المنبعثة من هذه المؤتمرات، محدودة فى تأثيرها، وذلك للأسباب االتالية:
- باستثناء العلماء والمتحدثين، فإن أعداد الحضور تكون قليلة جدا. وهذا قد يرجع إلى الطابع الأكاديمى المتخصص للمؤتمرات، ولكنه يرجع أيضا إلى محدودية أماكن الإقامة التى يمكن توفيرها فى المواقع المعنية، بالإضافة طبعا إلى أن تكاليف السفر والرسوم المطلوبة لتغطية تكاليف المؤتمر، تقف عائقا ضد رغبة الكثيرين من محبى التراث القبطى، خارج مصر وداخلها، فى الحضور والمشاركة. فبلا شك، هذا النوع من الأنشطة يحتاج إلى تمويل ضخم لو أردنا له أن يحقق الفائدة المرجوة منه.
وهنا يأتى دور الأقباط الموسرين، وأعدادهم ومدى ثرواتهم، ببركة الله، كبيرة. طبعا ندرك أن رجال الأعمال منهم يعزفون عن العمل السياسى، أو حتى الحقوقى، لأسباب مفهومة؛ ولكن ما عذرهم فى عدم تعضيد وتبنى العمل الثقافى والعلمى والإعلامى والتعليمى، المتعلق بتراثهم وتراث أجدادهم وتراث أبنائهم من بعدهم؟! هناك طبعا مساهمات كريمة وسخية لا يمكن إنكارها فى مجالات كثيرة ومناسبات عديدة. ولكننا نطمع فى الأكثر. نطمع فى التزام وديمومة. نطمع فى رعاة يضمنون اعتمادات تكفل استمرارية أنشطة مؤسسات مثل مؤسسة القديس مرقس، لهذا الجيل والأجيال القادمة.
- ضعف التغطية الإعلامية. فمن الصعب تواجد مندوبين من وسائل الإعلام العالمية. ووسائل الإعلام المحلية اقتصرت على القنوات المسيحية كأغابى وCTV، مع قنوات الصعيد المحلية ، وكلها قنوات محدودة الانتشار. وعلى حد علمى، لم يرد ذكر للمؤتمر فى الصحف المصرية- باستثناء جريدة وطنى- إلا فى جريدة الأخبار، حيث نوه به الأديب جمال الغيطانى؛ وهو ما لايستغرب من هذا المصرى الأصيل، المتمتع بالحس الوطنى والثقافى الذى يجعله من أشد المعنيين بالتاريخ القبطى. كما حرص الأستاذ الدكتورعصام عبد الله، الذى اهتم بحضورالمؤتمر، على الكتابة عنه فى مقال نشر فى جريدة quot;إيلافquot; الإلكترونية، بعنوان كنيسة عبدالله نرقى.
وبالطبع لن ينصلح هذا الوضع، إلا بانصلاح حال وسائل الإعلام المصرية؛ وهو ما سودت من أجله الصفحات، وبحت الأصوات. ولعله يأتى اليوم الذى يحظى فيه أمثال هذا المؤتمر وعلماؤه ومنظميه، بواحد على المليون، من الضجة الهستيرية الخالية من المعقولية، التى صاحبت مباراة كرة، وأحاطت بالمدرب واللعيبة.
- التوصيات: ليس هناك من يمكن إرسالها إليه، عدا د. زاهى حواس. وإحقاقا للحق، فإنه بتعضيد من وزيرالثقافة فاروق حسنى ومن د. زاهى، تم اتخاذ خطوات طيبة ومشجعة و شديدة الأهمية، لم يبخل عليها بالمال، فى سبيل ترميم وإصلاح الآثار القبطية. ولكن من المفهوم أن الموارد المالية والتعقيدات الإدارية، قد تسمح بالعناية بأماكن شهيرة بارزة، مثل دير الأنبا أنطونيوس أو الكنيسة المعلقة، ولكن لن يتسع كرمها وتسهيلاتها لأديرة وكنائس مغمورة فى أقاصى الصعيد.
كما أن الدكتور حواس يحمل فوق كتفيه أعباء تنوء بها الجبال. فقد شاء قدره أن يكون مسئولا عن الآثار فى بلد لا حد ولا حصر لآثاره الفرعونية والقبطية والإسلامية، بل واليهودية؛ وكلها فى حاجة لصيانة وترميم. كما أنه مشغول بمعارك كثيرة عالمية ومحلية. ولذا نتوسل إليه أن يتناسى قليلا موضوع المطالبة بإعادة القطع الأثرية التى يعاملها الغربيون معاملة المقدس؛ فيحمونها من هبة هواء أو ذرة غبار، ويعرضونها فى أبهى صورة، ويتطلعون إليها فى إعجاب ووله. وليركز جهوده على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكنوز الموجودة داخل بلدنا، والتى لايعلم إلا الله ما سيكون عليه مصيرها، خاصة بعد معركته الأخيرة (والتى ثبت أنها غير متكافئة) ضد خطر فتح الأبواب للتجارة فى آثار مصر. ونترك محاولة فهم معانى وأبعاد هذه المصيبة الجديدة للأستاذ طارق حجى، فيما كتبه فى جريدة الوفد بعنوانquot; الآثار.. بين العلماء والتجارquot;.
حفظ الله مصر، وكل آثار مصر، من كافة العوادى، الطبيعية والبشرية، التى تسعى لأن تمسها بسوء. وشكرا لكل من يسهم فى حفظ والتعريف بتاريخ مصر القبطى المنزوى فى ذاكرة الأمة.
التعليقات