quot;يفوز هذا أو ذاك بالانتخابات ليس لأن الجمهور صوت له، بل لأنهم قد صوتوا ضد غريمهquot; (فرانكلن آدامز)


يكاد المولد الانتخابي العراقي أن ينفض خلال أيام، لتبدأ المعاناة الأكبر. فبعد أشهر من التي واللتيا، وأسابيع من التجريم والتخوين والحرب النفسية، يستعد سياسيو العراق للمثول أمام واقع أية انتخابات في العالم باستثناء العراق، وهو أن تكون فائزا أم خاسرا. ففي العراق لا يجب أن يكون هنالك خاسر، ولا يتجرع أي من الأطراف quot;المتحاربةquot; فكرة انه quot;هزمquot; في الانتخابات، فالأطراف المتصارعة الثلاثة بل وحتى غير المتصارعة منها تتبادل الاتهامات بالتزوير حال تراجع أحدها، وتهلل لمفوضية الانتخابات حال تقدمها، بل وبات هنالك من يهدد بالعنف الشعبي في حال quot;عدم إعادة الفرزquot;، أي في حالة خسارته، والعنف يعني ببساطة مزيدا من الاقتتال ربما كان الأسوأ منذ 2003.

وبعد سنوات من اللت والعجن كما يقول المصريون، عدنا إلى المربع الأول حيث تبدو الديمقراطية التي أسرفنا في الحلم بها، وتحملنا حروبا واحتلالات وإرهابا ومآس، وسكبنا من الدم والدموع ما لم يسكبه شعب آخر، تبدو وكأنها لم تكن، وبأن سياسيي العراق رغم تغرب معظمهم لسنوات طوال في بلدان تعتبر من أرقى ديمقراطيات العالم، لا زالوا بحاجة إلى دورات في التثقيف الانتخابي من تلك التي تقيمها منظمات المجتمع المدني للجمهور البسيط في القرى. لقد اكتشفنا، وإن كنا نعرف ونتجاهل أملا في أن نكون مخطئين، بأن صدام حسين حالة عراقية قابلة للتكرار وإن اختلفت التفاصيل والرتوش، وبأن منطق أنا وبعدي الطوفان لا يزال يغازل عقول ساسة العراق الجدد كما مع سابقيهم اللذين تركوا لنا الوطن حطاما.

وأخشى ما أخشى أن يصّدق ساسة اليوم، ولا أعني هنا أحدا فهم جميعا سواء حتى يثبتوا العكس، بأن الأقدار قد أرسلتهم وبأنهم المنتظرون الذين كان التأريخ يخبئهم ليخرجوا وينتشلوا الشعب إلى آفاق المجد والخلود، وبأن الشعب لا بد وأن يعبدهم جميعا بعد الواحد الأحد، وبأن دوائر العالم أجمع تخطط لإهلاكهم خوفا من قيادتهم للجموع لفتح العالم، وبأن تنسيهم جيوش المستشارين ومواكب الحراسات ما كانوا عليه يوما قبل سنوات قليلة، يفترسهم الخوف وربما الجوع والغربة، وبأنهم راحلون يوما على طريقة صاحبهم الذي رحل وكأنه لم يكن.

حلمنا طويلا بأن يكون لنا quot;رئيس سابقquot; أو quot;رئيس وزراء أسبقquot; يسير في الأسواق كما هو الحال حتى في لبنان، عوضا عن القادة التاريخيين الملهمين الخالدين الذين يحكمون حتى الموت، موتنا أو موتهم، وحلمنا بدولة مؤسسات تقدم الخبز والعدل لمواطنيها سواء أكان على كرسي الحكم زيد أم عمرو،وإن كنا نعلم في أعماقنا بأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبأن قدرنا أن نخوض تجربة من سبقنا في العالم كاملة وإن طالت لعدة قرون، فنحن لا نقرأ التاريخ، وأن قرأنا لا نفقه.

في انتخابات العراق رأينا العجب العجاب، وسمعنا من القصص والحواديت ما تشيب له الولدان، وإن صح المثل القائل عن حديث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له في أي مكان على الأرض فإنه لا يصح في العراق اليوم، وهل سمعتم بحدوتة عمليات العد والفرز التي يديرها مجاهدو خلق بالريموت كونترول من الخارج أو أن تركيا هي من أدارت انتخابات الموصل مثلا؟!. فبعد الاتهامات الأولية بالتزوير والتلاعب من هذا الطرف والزهو بالنصر من ذاك، انقلبت الآية فبات هذا مزهوا والآخر شاكيا ولاعنا ومهددا، وعدنا كما كنّا دوما، شعبا تحكمه الأشاعة والمؤامرة والوهم.

هنالك حلم لن يتحقق في القريب العاجل على الأقل، وهو أن يجلس quot;المنتصرونquot; معا ليرسموا عراقا جديدا،وأن يضعوا جميع لافتات الايديولوجيا على الرف ويتفقوا على شكل الدولة واهمية التنمية والنهوض بالصناعة والزراعة والخدمات والتعليم والصحة، وأن ينقذوا النهر وأن يستثمروا خبراتهم في المهاجر لاختزال سنوات المعاناة التي ألتهمت اجيالا من العراقيين، الذين لا يهمهم كثيرا من يحكمهم وانما كيف يحكمهم وكيف يرد لهم دين الدم الدموع الذي ما لبثوا يدفعونه منذ عقود. نعم، هنالك الولايات المتحدة وإيران وتركيا وسوريا وغيرهم، ولكن اوليست السياسة هي فن الممكن، والسياسة البارعة هي فن تحقيق افضل الممكن والاستفادة من المتناقضات لتحويلها الى ايجابيات تصب في مصلحة البلاد ونموها، وها هي نماذج الخليج وسنغافورة وماليزيا وغيرها فلم نخجل من التعلم.

ينتظر العراق اليوم جمعة ساخنة مشحونة بالتهديدات وووعود العنف قد تضع وجود العراق بمجمله على المحك، ويتطلع العراقيون وجلا وأملا إلى اقطاب المعركة الانتخابية آملين منهم أن يتذكروا ولو لمرة واحدة بأن كراسيهم جميعا لا تساوي دمعة أم أو صرخة طفل أو انين جريح فيما لو انحدر العراق الى الاقتتال الأهلي من أجل كراسيهم، وبأن يضعوا نصب أعينهم المثل القائل بأن quot;الافضل لا يمكن أن يفوز في الانتخابات، لأنه ببساطة لم يترشح لهاquot;..

في الفوز والخسارة دروس سياسية واخلاقية كبيرة، ومن محاسن النظام الديمقراطي انه يعطيك الفرصة دائما لتعود إن كان لديك ما تعطيه، فلا الخسارة هي الموت على اعواد المشانق أو برصاص العسكر كما كان الأمر سابقا، ولا الفوز هو الجلوس على الكرسي الوثير حتى الموت أيضا، فلنتشبث بهذه الديمقراطية وإن كانت عرجاء بعض الشيء، وإن شابتها سلبيات وعقبات ونواقص، وإن لم تحقق ولو نزرا يسيرا من احلامنا.

لجميع الفرقاء المتصارعين quot;ديموقراطياquot; حتى الآن قبل اللجوء الى البنادق، أقول، اتخذوا قراركم بروية، واضعين البديل الدامي نصب اعينكم وإلا خسرتم هذا الشعب إلى الأبد.