في عراق اليوم quot;مولدquot; انتخابي وفق تعبير إخواننا المصريين، فالسرادقات قد نصبت وبدأت فعاليات التسالي والرقص والغناء، وانتشر السحرة والمشعوذون والحكاوتية في أركان المولد يقصون القصص ويزوّرون الماضي والحاضر والمستقبل. انه موسم الانتخابات في صورة لا تنفك تراها في أي بقعة في هذا العالم العربي الذي اختزل الديمقراطية في صندوق التصويت.
في مثل هذه الأيام يخلع السياسيون أرديتهم ولغتهم، فنكتشف بأن فلانا هو الوطني الوحيد بينما الآخرون جميعا عملاء وجواسيس، ونكتشف بأن الابتسامات والولائم quot;التوافقيةquot; إنما تخفي وراءها ما وراءها، وبأن بوصلة القوى السياسية تكمن في كرسي السلطة لا في مصلحة الوطن، وفي مثل هذه الأيام تتجرد اللغة من قيودها فتصبح القوات متعددة الجنسية قوات الاحتلال البغيض، ويصبح الجميع مقاومون لهذا الاحتلال حتى من أجلسهم الأميركيون على كراسيهم، ويتحدث الجميع عن محاسن المواطنة ونبذ الطائفية والمحاصصة، وعن الرخاء القادم، ومكافحة الفساد، وانتهاء عصر الإرهاب. وتضج وسائل إعلام الجميع هذه الأيام بالأسماء الصريحة بعد أن انتهى عهد التورية والإشارات الغامضة تطبيقا للممارسة العراقية التقليدية في التسقيط والتشهير وكسر العظم بلا حدود أو قيود. وبالطبع تلعب الإشاعات، وخصوصا المسيئة للعرض والشرف منها، دورها المعهود في أوساط شعوب أدمنت ثقافة السماع والتلقين والالتقاط عوضا عن ثقافة القراءة والتمحيص نتيجة تجربة اجتماعية- ثقافية - سلطوية عريقة.
في مثل هذه الأيام ينأى الكتاب المستقلون عن الكتابة عن الانتخابات لئلا يحسبوا على هذا الطرف أو ذاك، فخزين الشتائم والنعوت في عراقنا الحبيب لا حدود له، فقد يتم تصنيفك لمجرد رأي هنا أو هناك رافضيا أو صفويا أو بعثيا أو صداميا أو قاعدة، أو ربما عميلا أمريكيا أو سوريا أو إيرانيا أو سعوديا أو مصريا، وهنالك طبعا الاسطوانة الشهيرة بأنك تقبض من إيران أو سوريا أو السعودية أو أمريكا أو إسرائيل، وبأن هنالك وثائق تثبت ذلك، ويتم حتى اختلاق قصص بأنك كنت مخبرا للأمن في العهد البائد أو بأنك إيراني اسمك الحقيقي بهرام أو إسرائيلي اسمه عزرا وبأنك عقيد في مخابرات هذا البلد أو ذاك. أما في الخارج فحدث ولا حرج، فيقال لك بأن فرق الموت تنتظرك في المطار لإعدامك فورا، وبأن القناصين ينتشرون على الأسطح، و بأن العراقيين يأكلون الفئران، والكثير الكثير من التسالي الخرافية التي يقبلها العقل العربي فورا مهما تثقف. ولا نستغرب، فالانتخابات العراقية ليست عراقية بحتة، وليست بغداد وحدها التي تنتخب، بل هنالك أصوات لطهران ودمشق وعمان والرياض والقاهرة وانقرة وأبو ظبي وصنعاء، ولواشنطن ولندن، وربما لوزيرستان وتورا بورا، فالحدث الانتخابي العراقي حدث دولي، شأنه شأن الموت العراقي.
وكالعادة في مثل هذه المواسم، وفي مطالعة ومشاهدة سريعة لصحف ومواقع وفضائيات أطراف المولد، تصبح الحكومة هي الشر المطلق، فهي مدبرة التفجيرات وسارقة الأموال ومهندسة الموت، أما الآخرون بما فيهم القاعدة ومن لف لفهم فهم جميعا ملائكة رحمة بل وحتى القاعدة أصبحت اختراعا أمريكيا لا وجود له على أرض الواقع، أما الجماعات الخاصة الإيرانية فهم دعاة خير يوزعون الرز والسكر على البسطاء، والبعث بات مشروعا تحديثيا لم يقتل ذبابة طوال حكمه، ذلك إن الحكومة تجلس على الكرسي الوثير الذي يتطلع الجميع إليه والذي يعني لهم الأموال البترولية الطائلة والجوازات الدبلوماسية والعمولات الأسطورية، مثلها مثل مجلس النواب الذي سارع بانتزاع المزيد من الامتيازات قبل أن يرحل أعضاؤه تاركين المقاعد الدسمة ربما لآخرين.
وبالطبع، وفي مثل هذه الأجواء، لا نستغرب توظيف حتى أكثر الكوارث مرارة مثل تفجيرات الأربعاء والأحد وقطع المياه من قبل جيران السوء الثلاثة انتخابيا وبكل وقاحة، مخالفين قاعدة سياسية سائدة في كل العالم وهي التلاحم الوطني أوقات الأزمات وإلا خسر الحزب السياسي رصيده إلى الأبد، إلا في العراق، فأشلاء الآلاف لا تمثل أكثر من أداة انتخابية لجميع الأطراف مثلها مثل أزمة العطش والجفاف القادم، وتمر الكارثة مر الكرام فينسى الجميع ما حدث بعدما اعتادوا حضور الموت الدائم، ويبقى رضا الجار أهم كثيرا من رضا أهل الدار.
تسألني عن الحلول والبدائل؟ فأقول لك لا حل في العودة إلى عصر ما قبل أربعين عاما أو إلى ذاك ما قبل ألف عام، فكل استنفذ ما عنده، وما اليوم إلا ركام الأمس وما قبل الأمس، والزمن وحده كفيل بإفراز أجيال جديدة تخرج نخبا مؤهلة لصناعة التغيير، وأقول صناعة لأن التغيير لا يأتي من تلقاء نفسه وإلا لقامت مدنيات كبرى في أدغال الأمازون اليوم، وإنما تقوم به نخب رسمت في مخيلتها وطنا عصريا متحضرا متطورا، وتنفذه شعوب تتربى على البناء والحب بدلا من الكراهية والإقصاء، فسياسيو اليوم هم ذاتهم سياسيي الأمس، أبناء أجيال الخلافات العقائدية والأيديولوجية، والأهداف الضبابية والأحلام البالية العتيقة العاجزة حتى الساعة عن الاتفاق على مفهوم مشترك للدولة.
على العراق قبل التفكير في البناء أن يطرح عنه لباس القيم الثقافية والسياسية والاجتماعية القديمة، وتعريفات أدمنها ومثل باتت أشبه بالمقدسات حتى البائد منها، وهذا ليس متاحا في هذا الجيل على الأقل،وليس لنا إلا أن نتطلع آملين أن يضع من يحكم اليوم وربما غدا اللبنة الأولى.

ابتسموا ولا تعلقوا، فإنه موسم الانتخابات.. ولننتظر ونرى.