حول حادث مصرف الزوية ببغداد
quot;النسبية تنطبق على الفيزياء، ولكنها لا تنطبق على الأخلاقquot; (البرت آينشتاين)
لا يمكننا الإدعاء بوجود أخلاقيات في عالم السياسة المجرد، ولكن يسعنا إدعاء وجود قيم ومثل وأخلاقيات لدى الأفراد والجماعات تكونت نتيجة لصراع الإنسان الأبدي من أجل الارتقاء والبحث عن الحقيقة والفضيلة ، ولذا تكونت الأديان والعقائد، وبعدها الأفكار الإنسانية الكبرى، ولذا اصطنع الإنسان الدساتير والقوانين، وصاغ النظريات في الاجتماع والسياسة والإدارة، وخلق مدنيات قضت وقامت مقامها أخريات. وجاءت الاشتراكية والرأسمالية وما بينهما وكذلك الفلسفات المختلفة لترسم صورا للإنسان ومستقبله، كما فعلت الأديان واللاهوتيات، ووضعت جميعا مثلا عليا أو لنقل أهدافا أخلاقية تحاول أن تصيغ الإنسان وفق معاييرها.
وبتطور السياسة عبر تنوع علاقات الإنتاج والتداخل بين الأفراد والجماعات جاءت النظريات السياسية الكبرى فيما جاءت لتصيغ علاقة الحاكم والمحكوم وشكل الحكم وعلاقات الأفراد والمجتمعات، و تجسدت عبر العصور قيم للفضيلة والحق والخير والجمال قد تختلف تفاصيلها بين ثقافة وأخرى، أو مجتمع و ثان، ولكنها بلا شك تتفق في ثوابت أخلاقية معينة بنى الإنسان حولها نظرياته الكبرى ورسم لنفسه غدا فاضلا، أرضيا كان أم سماويا. وفي سياق التطور الطبيعي للفكر البشري حضرت قيم حقوق الإنسان والحرية والحق في الحياة والتعبير، وتلاشت ثقافة الطاعة لتحل محلها ثقافة المشاركة وولى بالنتيجة عصر الحاكم السيد والرعية ليحل محله عصر المواطن والحاكم الخادم الذي ينتخبه المواطنون ليخدمهم، وتطورت- شئنا أم أبينا - أخلاقيات سياسية جديدة تتمثل في قيم تداول السلطة وفصل السلطات والنزاهة والمساءلة الشعبية وبالتالي ثقافة الاستقالة والاعتذار الناشئة عن الشعور بالمسؤولية وجسامة الإخلال بها.
في عام 1974، أكتسب ريتشارد نيكسن احترام خصومه قبل مؤيديه عندما تنازل عن كرسي حكم أكبر دولة في العالم بعد أن اكتشفت الصحافة بأنه تجسس على معارضيه (في بلدنا هذا فتح مبين وليس بجنحة)، ولعل التأريخ سيذكره لهذه الشجاعة الأدبية والأخلاقية أكثر مما سيذكره عن فتحه ألأبواب المغلقة بين بلاده وبلاد الصين القصية مجتنبا ربما حربا لا تبقي ولا تذر، و الأمثلة في العالم اليوم باتت أكثر مما تحصى. فالعالم لم يعد يعتبر الاعتذار والتنازل ضعفا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسؤوليات كبرى، بل بات يعتبره قيمة أخلاقية تنم عن شعور رفيع بالمسؤولية.
في عالم اليوم نوعان من السياسيين، نوع يقطن العالم المتمدن والسائر نحو التمدن، والنوع الآخر يعيش في كوكب آخر الذي تقع بلادنا فيه حتى إشعار آخر. يعيش النوع الأول في عالم حقيقي تحكمه القوانين والدساتير والدراسات والإحصائيات والأرقام حيث الإنسان ورفاهيته وحريته هو الهم الأول والأخير، فلا بلاد بلا بشر، ولا دول بلا مواطنين، بينما يعيش النوع الثاني في عالم افتراضي وهمي تحكمه الخرافات والأيديولوجيات والأوهام ومثل وهمية وأخرى بالية، العالم الأول تحكمه الحقيقة والبحث الدائب عنها، أما العالم الثاني فتحكمه الإشاعة و الافتراض والتخيل والإغراق فيهم. في العالم الأول تنال أبسط الحوادث اهتماما شعبيا وسلطويا كبيرا، أما في العالم الآخر الذي يعتبر تلك تفاهات لا تستحق التوقف عندها، تمر اكبر الأحداث وكأن شيئا لم يكن. فالحياة ، كل الحياة، وما يتعلق بها من بيئة وطبيعة وكائنات وتفاصيل تهم العالم الأول، أما في العالم الآخر فالحياة البشرية ذاتها لا قيمة لها، فتراه يتحدث عن قدسية الشهادة وعن الموت في سبيل أي شيء أكثر منه عن الحياة في سبيل كل شيْ وأي شيء. وما حدث في مصرف الزوية ببغداد حادث جلل بلا شك، وما انتشر من قصص إعلامية و من أفلام تمثل القتلى الممدين في برك دمائهم ناهيك عن الأموال المنهوبة كفيل بإحداث ضجة هائلة في أي مكان في العالم باستثناء هذا الكوكب المسمى بالعراق. وفي الواقع نحن لا نعلم إن كان الحادث جنائيا أم سياسيا، ولا نعلم لأن الحقيقة في العوالم الافتراضية افتراضية هي الأخرى، والمعلومات دائما مصدرها الإشاعة والتخمين ذلك لأن المعنيين لا يتكلمون، وإن تكلموا لا يصدقون، فالصدق ليس من شيمنا.
أنا لا أعلم حقيقة إن كان هذا السياسي أو الحزب أو ذاك أو ضالعا في الجريمة أم لا، ولكنني أعلم يقينا بأنه في أي دولة محترمة في العالم وفي أي حزب سياسي يعتقد بأنه مسئول أمام جماهيره فإن مثل هذا الحادث لا يمر مرور الكرام، و تتبعه حتما استقالات واعتذارات على الملأ حتى لو كان السياسي أو الحزب المذكور بريئين براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فمجرد ورود الشبهة إسقاط سياسي وأخلاقي كبير، ومجرد ترديد تلك الأسماء السياسية والعسكرية والدينية الرنانة وصمة لن تمحى من قلوب المؤيدين قبل المعارضين. وفي ظل غياب مبرر لسلطة قضائية فاعلة، هذه دعوة لسابقة في تأريخ العراق السياسي، وهي الاعتذار والاستقالة لكل من ورد أسمه في شبهات هذه الجريمة وليكن مردها ndash; في حال عدم المسؤولية المباشرة- الجهل بما يدور في الدوائر الدنيا لذلك السياسي أو الحزب وسيضمن له التاريخ دخوله من أوسع أبوابه، بل وربما يأتي يوم تبعا لذلك يستقيل ويعتذر فيه من أسال دماء العراقيين ونهب أموالهم وخيراتهم. هو حلم آخر في وطن الأحلام المجهضة وفي مجتمع لا يزال سياسيوه يعيشون في وهم quot;القامات النضالية السامقةquot; غير القابلة للمس وعبادة الشخص الذي يصنعه المصفقون والمطبلون، وطن الانقلابات والاغتيالات والحروب والمشانق والدماء والدموع، وطن الذين رحلوا والذين ينتظرون، والأجيال التي ترث ذات الأمراض وذات الثقافات.
أعلم تماما ويعلم القارئ ،بأن الحديث عن العراق ومن بالعراق لم يعد مجديا مجديا، فكما أفنينا عصر النظام السابق صراخا وعويلا وتحليلا وسفسطة ، ترانا اليوم وقد رحل نعود إلى نفس نلك الاسطوانة وذات المطالب، ذلك إن التغيير الذي يمتص دماء المئات والآلاف ينتهي كما هو الحال دوما إلى استبدال سلطة بأخرى، وسلطان بآخرين، فنحن أبناء ثقافة عصية على التغيير بل ومقاومة له فمن تمرد على صور السلطان المليونية في عراق الأمس استبدلها بصور سلاطين اليوم، ومن عانى الأمرين في سجون الأمس بات اليوم سجانا وبامتياز، ومن طارد عصافير العراق بالأمس بالعصا والبندقية وبدلات الزيتوني، بات يطاردها اليوم بالجبة والقفطان. هكذا نحن، وهكذا كنا، وهكذا سنبقى. فما أسهل أن يتحول المظلوم عندنا إلى ظالم ما دام الأمر تبادل أدوار ليس إلا، وما دمنا نثور لنجلس على كرسي ولي النعم فحسب.
لقد عجز الفكر السياسي العراقي والعربي، والشرقي عموما، عن العبور من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة بكل مكوناتها الحقوقية والإنسانية ربما بسبب طلاقه غير الرجعي مع نظيره الثقافي الذي لم يبق له من خيارات إلا الانعزال طوعا أم قسرا أو الهروب إلى حدائق العالم، أو ربما البقاء ضيفا غير مرغوب فيه على فتات مائدة السلطان، ولكن ما يغفله السلطان دوما بأنه قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه ولكن من الصعب نقل وطنه منه، كما قالها تشي جيفارا يوما موجها كلامه لأمثال من لا يزال يعمل في عراق اليوم على خلق أوطان وهمية بلا مواطنين، تأكل وتشرب الشعار والجعير اليومي حتى الثمالة و تبيع الوهم جيلا بعد جيل، فلا زال فينا جميعا من العراق و القدرة على الحلم بقية لن تذوي، وما لم يستطع عصر القسوة والجبروت والقمع الأعمى انتزاعه منا عبر عقود لن يستطيع عهد آخر أن ينتزعه بالتأكيد.
وإلى أن نكتشف بأن لا قيمة للوطن بدون المواطن، وإن الأرض البور ليست وطنا، وأن عصر الرعية والقطيع المطيع قد انتهى في العالم ، وبأن الإنسان هو جوهر quot;المكًونquot; وليس العكس، وبأن لا قيمة بل ولا وجود لدين أو عقيدة أو نظرية بدون معتنقيها، وبأن الأرض لا تثمر بدون فلاحها، والبناء لا يعلو بدون بنائين، وبأن دولة بلا مواطنين أشبه بحافلة بلا ركاب، وإلى أن نرمي السلاح ونزرع أمام منازلنا زهورا وأشجارا، فإننا سننتظر المزيد من عواصف الغبار بكل أشكالها وحوادث مثل حادثة المصرف بكل أنواعها.
التعليقات