quot;لدينا ما يكفي من الدين لنكره، ولكن ليس لدينا ما يكفي منه لنحب..quot; (الكاتب الايرلندي جوناثان سويفت)

لم يكتف البعض ممن جاء بهم عصر النكبات بما سال من دماء العراقيين أثناء سنوات الحريق ما بين 2005 و 2007 بل وبما سال منها منذ أكثر من عشرة قرون، ولم يكتف هذا البعض بالملايين التي تركت ديارها وأراضيها، ومن أستوطن بقاع الأرض هربا من لعنة يحملها اسمه أو هويته التي لم يخترها، ولم يكتفوا مما نهبوا وسلبوا من أرواح وأموال وأراض وأطيان.
لم يسرهم أن يعود الوطن إلى ذاكرة العراقيين بعدما أوشكوا أن ينسوه، وأن يعودوا تدريجيا إلى العمل والبناء والقراءة والكتابة والرياضة والغناء، ذلك أن شعبا بهذا الحب للحياة لن يستقيم جارا صالحا لولي النعم في طهران أو للمجاهد الأكبر في تورا بورا، ولن يحقق أحلام إمبراطوريات التخلف العائمة في أوهام القرن السابع، ولا يصلح بأن يكون رجاله رهبانا في الليل وفرسانا في النهار، وأن تكون نساؤه بقرات في حدائق المتعة والمسيار، فقرروا لا أن يعودوا بالعراق إلى عصر ما قبل الصناعة فحسب كما أطلقها جيمس بيكر في وجه طارق عزيز ونظامه الرث قبل ثمانية عشر عاما، بل إلى ما قبل عصور العقل والتدوين وحتى الزراعة.
لقد تمخضت تلك الجبال الوهمية فاكتشفت بأن الحل للمسالة العراقية يكمن في إقامة مسوخ طالبانية طائفية مع quot;ضمان حقوق الجميعquot; في الظلم والجلد والاستباحة وغسيل الدماغ ومصادرة الحريات صغيرها وكبيرها والتبرع بالعراقيين لحروب الولي الفقيه وبن لادن وحماس وحسن نصر الله حتى يفنى هذا الشعب عن بكرة أبيه. فبتكون المسخ الطائفي الأول سيتكون بالنتيجة المسخ الطائفي المقابل وسيتجه الجميع للاحتماء بهما بعدما تزول دولة الجميع ويتلاشى الأمل بالمواطنة بعد أن تصبح الهوية الطائفية هي العنوان الوحيد للمواطن الذي ما فتئ يبحث عن هويته العراقية عبر العصور، ومن الطبيعي بالنتيجة أن يصطدم المسخان في حرب على الموارد، ويصبح تقسيم العراق بالتالي أمرا واقعا بل ومرغوبا محليا وإقليميا لإيقاف نزيف الدم القادم حتما.
في مرحلة ما من مراحل تقدم المجتمعات، تخلع النخب الثقافية والسياسية والعلمية رداء الخوف والنفاق والمجاملة وتتجه للصدام الحتمي مع قوى التخلف والبلادة والأمية لأنها عندئذ تدافع ليس عن بقائها فحسب، بل عن بقاء قيم أساسية كالوطن و قيم إنسانية كالحرية والتقدم كما حدث في جميع أنحاء العالم، وكما سيحدث في العراق عندما تصل المأساة إلى اللحظة التاريخية التي تتطلب خروج مثل تلك النخب التي لا يبدو بأنها قد تبلورت حتى الآن، وكأن كل ما حدث في العراق لا يكفي لظهور أجيال لا تعجز عن رسم صورة للمستقبل في هذا البلد الغني ولا تسقط مثل سابقاتها في أوحال الماضي السحيق. فمن المثير للعجب ألا يظهر تنظير سياسي عراقي جديد يمتلك رؤية للغد في محيط لا يستطيع إلا أن ينظر إلى الوراء، فمن أطراف متنفذة تريد العودة للماضي البعيد جدا، إلى أطراف فقدت سلطتها و تبحث عن العودة إلى الماضي القريب جدا، وبين هذا وذاك أطراف تلعب على هذا الحبل وذاك لضمان استمرار حلب البقرة التي لا ينضب حليبها.
لقد أثبت تأريخ البشرية بأن الأجيال والشعوب لا تتعلم من بعضها البعض ولا من تاريخها وتواريخ غيرها، ولذا تعيد مسلسلات الحروب والدمار تحت مختلف الأقنعة، فما أن يضع جيل السلاح ويتعهد بألا يكرر ما أقترفه، حتى ترى الجيل اللاحق له يعيد الكرة وهذا ما كلف العالم ملايين القتلى في حربين كونيتين متتاليتين حتى توصل إلى قيم جديدة جعلته حتى يومنا هذا يتجنب المغامرات المميتة قدر الإمكان، ولكنه لم يستطع تجنب عشرات الحروب الصغيرة الدولية منها والإقليمية والتي تخوضها بالنيابة شعوب ما زالت تعيش في الماضي السحيق والتي يبدو بنها تحتاج إلى عصور من التدمير قبل أن تدرك بأن لا هراء أو شعار أو عقيدة في العالم تستحق كل هذا العدد من جثث مواطنيها. والعراق حالة خاصة من هذا الركب، فقد خاض حروبا متتالية خارجية وداخلية، أوصلت أكثر من عشرة أجيال من أبنائه إلى الضياع، وأفرزت أجيالا جديدة منفصلة عن حاضرها ومستقبلها، فلم تجد بدا من البحث في الماضي عن بصيص من نور لن يأتي.
وما حدث في عراق اليوم الذي لا ينفك قادته يتغزلون على شاشات الفضائيات وبكل صلافة بالديمقراطية التوافقية المزعومة ودولة المكونات لا المواطنة رغما عن أنوف ملايين العراقيين وكأن المواطنة قد باتت سبة، بأن حكومته قد تجاوزت - سواء أكان الأمر لفظيا أم عمليا- خطوطا حمراء رسمها اللاعبون الرئيسيون عند حديثها عن دولة المواطنة والوطن الموحد، سواء أكان ذلك الوطن ديمقراطيا أم شموليا، وتجرأت على تجاهل نظرية quot;جو بايدنquot; التافهة و دولة quot;رامسفيلد الإسلامية المعتدلةquot; الوهمية التي حاول إقامتها على الطريقة الإيرانية باستخدام القوة المسلحة الأميركية. وبغض النظر عن جدية الحكومة أو مقدرتها على المضي في تنفيذ ما تتحدث عنه، فإن مجرد إحياء هذه المفاهيم لفظيا وانعكاسات ذلك على نتائج الانتخابات المحلية جعل من البعض يرى في إسقاط هذه الحكومة ضرورة وتكليفا شرعيا إن لم يكن الآن ففي الانتخابات القادمة على أبعد تقدير ببث المزيد من الفوضى على جميع المستويات ابتداء بعودة الإرهاب إلى الشارع وليس انتهاء بإحياء الجثة الميتة المدعوة بالبرلمان الذي تذكّر بأن هنالك فساد في البلاد في الأيام الأخيرة من عمره!
ولا أخشى قدر ما اخشي أن تتحقق نظرية المسوخ الطالبانية هذه، والتي حال تحقيقها على أرض الواقع سيتم إحياء الخدمات الأساسية فيها بقدرة قادر وبأموال وجهود دول الجوار ليثبت الطالبان الشيعي والسني للجميع بأن العقبة كانت إنما تكمن في الوطن الموحد فيرتبط هذا بذاك في أذهان البسطاء ويرحل العراق إلى الأبد بعد سبعة ألاف عام من الوجود بعد أن تصبح مسوخه محافظات في دول الجوار المختلفة.
قد يرى البعض في هذا السيناريو خيالا بعيدا عن التحقيق، ولكنني أراه ويراه كثيرون غيري حقيقيا أكثر من أي وقت مضى ما لم تنتفض quot;بقاياquot; روح المواطنة في هذا الوطن المنكوب الذي أجهضته الحروب بالوكالة والدكتاتوريات والإيديولوجيات، ونصبح جميعا مثل مثقفي الصومال، نبكي وطنا تركناه يتمزق أمام أعيننا.
نتمنى جميعا أن يكون هذا كابوسا آخر و يمر، وما أكثر كوابيس العراق.