المصالحة والتعاون جلبا لنا الحرية والتقدم والازدهار، من كان ليصدق هذا قبل خمسين عاما..quot;
(هورست كوهلر، الرئيس الألماني)
quot;لا مصالحة بلا عدالة quot; (كورازون أكينو)

المصالحة حديث الساعة في الأوساط السياسية العراقية، وأقول السياسية وليست الشعبية لأن الأخيرة لديها الكثير مما يشغلها مع اقتراب الصيف اللاهب أولا وعدم وجود مشكلة quot;تصالحيةquot; بينها ثانيا، فالمشكلة سياسية مصلحية بحتة. والمصالحة مبدأ وتصور للوطن وإدارته قبل أن يكون قرارا حكوميا، ولعل هنالك العديد من المصالحات التي يجب أن تجري داخل الكيانات الحاكمة قبل أن تنتقل إلى تلك الرافضة لها.
فمن كان ليصدق قبل خمسين عاما بأن ألمانيا ستنهض لتصبح القوة الأوربية الأكبر والأعظم، بعد عقود الدمار الأعمى والجنون العرقي والاحتلالات الخمسة، بل ومن كان ليصدق بأن تراث الأيديولوجية الهتلرية سيصبح تأريخا يقرؤه تلاميذ المدارس للموعظة والاعتبار بعد أن تعلموا بالممارسة الأسرية والاجتماعية والسياسية اليومية عبر عقود بأن الإنسان يأتي أولا، وكل ما بعده من دين ولون وعرق يأتي تاليا بدرجات. حينئذ، اتخذت النخبة الألمانية قرارا بإقامة مجتمع قائم على اقتصاد السوق والتكافل الاجتماعي والعدالة والحرية والديمقراطية، وباقتصاد متنام قاد عجلته بإبداع لودفيج ايرهارد ونخبة من الاقتصاديين الذين وضعوا نصب أعينهم ألمانيا الوطن الأم، لا على الطريقة الهتلرية الفوقية القائمة على إبادة الآخرين، وإنما على أساس قيم الرفاهية والحرية والعدالة لجميع أبنائها، فحققوا المعجزة الألمانية التي لا يستطيع إنكارها أحد..
يأتي حديث ألمانيا هنا على هامش خطاب المصالحة والمشاركة في البناء الذي أطلقته الحكومة في شخص رئيس الوزراء المالكي، وردود الفعل العنيفة عليه المستمرة حتى اليوم من الحلفاء والخصوم على حد سواء والتي لا تزال تعكس معاناة العقل السياسي العراقي والعربي عموما القائم على الإقصاء وامتلاك الحقيقة. فكما كان البعثيون الذين أقاموا جمهورية رعب و أمن مصطنع قائم على الخوف وسلطة الحزب الواحد والقائد الأوحد الفرد الذي تذوب فيه الجماعة طوعا أم كرها باستخدام القوة المفرطة، جاء خلفاؤهم فأقاموا بمعية الولايات المتحدة جمهورية الفوضى القائمة على اللاقانون حصدت من الأبرياء الكثيرين بعد أن سقطت ثقافة المظلومية التاريخية في فخ امتلاك ذات القوة المفرطة فكادت أن تؤدي بالوطن إلى مطحنة شاملة، بعد عملت بروح الانتقام بدلا من أن تعمل بروح إزالة quot;المظلوميةquot; عن كل الأطراف وعدم جواز تكرارها في المستقبل لأي كان، حتى جاء الوقت الذي أدركت فيه دوائر الحكم بأن الوقت قد حان لتأسيس (و لإعادة تأسيس) الدولة الأم الشاملة للجميع بعد أن أخذت دائرة العنف أقصى مدى لها وأخذت بالانحسار، فكان نداء المصالحة وكانت ردود الأفعال المتوقعة، حتى أضطر الرحل الرجل إلى سحب تصريحاته بعدما ما أدرك بأن حلفاءه وخصومه على حد سواء سيستخدمونها في صراع الانتخابات المقبلة أيما استخدام، باستخدام قصصquot;النظام السابقquot; وجرائمه لسنوات مقبلة للاحتفاظ بالكراسي كما أستهلك العروبيون فلسطين وقضيتها ليحتكروا الكراسي والثروات مدى حياتهم وحياة أبنائهم.
هذا من جانب الحلفاء المفترضين، أما الخصوم، فهم أسرى ذات العقلية الخربة القائمة على ثقافة البادية وتقديس العنف التي أودت بالعراق، والتي ترى في الجنوح للمصالحة ضعفا واعترافا بالعجز وعلى الأخص في التربية السياسية القائمة على العنف كما في حالة البعث على سبيل المثال، الذي لا يزال غارقا في ملكوت آخر من حلم العودة إلى السلطة بقيادة quot; معتصم العصر الخليفة السابعquot; (إن كان لا يزال حيا) مع جيش مليوني سري يخرج من تحت الأرض.. إلى آخر القصة المعروفة، أو القاعدة ومشتقاتها التي لا ترى طريقا إلى الجنة إلا على جثث الأبرياء، ولذا بدت دعوة الحكومة أشبه باختراق حقل للألغام خصوصا في ظل المعارضة من شركاء الحكم قبل تلك من معارضيه مما يدخل الحكومة في مرحلة إعادة تحويل العراق إلى دولة في اختبار آخر قد لا ينجح للإرادة السياسية للحكومة.
يأتي تعقيد عملية quot;تطبيعquot; الأوضاع الداخلية في العراق نتيجة لاختلاط السياسي بالديني والوطني بالعقائدي، وبالتالي بالطائفي والعرقي والثقافي، فما كان يوما صراعا بين نظام بائد ومعارضة سابقة تحول في السنوات القليلة الماضية إلى صراع طائفي وقومي بعد أن تمكنت أطراف متطرفة وبأساليب بالغة الاحتراف من استدراج قوى شعبية كبيرة من الطوائف والقوميات العراقية الرئيسية إلى هذا المستنقع الذي خلف جروحا عميقة وصلت إلى حد التهجير العرقي وتغيير الواقع الديموغرافي في المناطق quot;المختلطةquot; وفق القاموس السياسي الجديد في العراق الذي كان قائما في الماضي ولكنه كان سريا ومخفيا، ولكنه بات اليوم جزءا من المنطق السياسي اليومي. وهذا ما جعل عملية للمصالحة تنقسم إلى شقين، أحدهما شعبي وهو لا يحتاج إلى قرار حكومي ولكنه يحتاج إلى جهد ميداني يتمثل في إعادة المهجرين من جميع الأطراف إلى منازلهم وهو حق أساسي لأي مواطن ولا اعتقد بأن أي عراقي مهما بلغ تطرفه أن يجاهر بمعارضته، أما الشق الثاني و هو - المصالحة السياسية - وتتم تسويته عادة ما بين أطراف مختلفة ومتحاربة، وتقوم دائما على عملية مصارحة وعلى تأسيس قواعد مشتركة من الاعتراف بالنظام وبالآخر والإقرار بعملية التداول السلمي للسلطة والدستور وما إلى ذلك.
وبالطبع، ولضمان نجاح أية مصالحة سياسية، لا بد وان تقترن بالعدالة، ولذا فأن quot;أطراف المصالحةquot; أمام خيارين، يتمثل أولهما في إغلاق ملفات الماضي جميعا وفتح صفحة جديدة على طريقة المرحوم عبد الكريم قاسم باستثناء ما يقع قانونيا تحت طائلة الجريمة وتصنيف ذلك يقع على عاتق الحقوقيين والقضاء وليس على السياسيين، أو الخضوع لمنطق العدالة والمحاسبة للجميع وهنا يظهر مأزق آخر يتمثل في أن جميع من أجرم في أي زمان ومكان يجب أن يخضع للعدالة المتمثلة بالقضاء وهذا ليس قابلا للتحقيق في هذا الوقت على الأقل، إذ يتطلب الأمر قضاء عادلا مستقلا وإرادة سياسية جدية من جميع الأطراف، وهذا أيضا بعيد المنال حاليا في ظل غياب عقيدة المواطنة عن الأطراف السياسية والفقه الدستوري والممارسة العملية على حد سواء.
ويبدو في ضوء ذلك بأن عودة العراق إلى مرحلة الدولة الوطنية يتطلب الكثير من الوقت والجهد، ويعتمد أساسا على بنية القوى السياسية الحاكمة والمعارضة وتركيباتها العقائدية والتداخلات الدولية والإقليمية وضرورة ولادة تيار وطني حقيقي وواقعي من رحم الأزمة مشبعا بدروس الماضي والحاضر ينظر إلى الغد لا إلى الأمس، وهي ولادة آتية وإن أخذت حقها من الزمن لأن العراق مثله مثل أي من شعوب الأرض خاضع لنفس القوانين التاريخية ومعادلات الأسباب والنتائج والقوانين التاريخية رغم الاختلاف في التفاصيل، ولعل ظروف مثل هذه الولادة قد بدأت تختمر لأن ما مر به العراق لم يشهده شعب أو وطن في هذا الجزء من العالم على الأقل.
الحزب الديمقراطي الإسلامي؟
لعل الواقع على الأرض في العراق ينبئ بأن الأحزاب الإسلامية قد باتت رقما أساسيا في الساحة السياسية العراقية، ولعل تجربة السلطة قد صقلت تجربتها السياسية كما يأمل الجميع لتدرك المساحة بين الأيديولوجيا والواقعية، ولكن السؤال يبقى حول قدرة هذه الأحزاب بشكلها الحالي على قيادة التغيير أو على الأقل وضع لبنات البناء والتنمية الأولى. وفي حديث مع أحد قادة الأحزاب الإسلامية العاملة تحت عباءة الإخوان المسلمين في بلد عربي قبل سنوات قليلة، أخبرني الرجل بأن الحل لمشكلة أسلمة السياسة في العالم الإسلامي في ضوء غياب التيارات الليبرالية تماما عن الساحة هو في تحول الأحزاب الإسلامية إلى ما يشبه الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، فهذا الأخير، وإن فإن كان أساسه الفكري يستند إلى الفهم المسيحي للإنسان وإلى مسؤوليته أمام الله، فإن قيمه الرئيسية هي الحرية والتضامن والعدالة ولذا ضم في صفوفه مسيحيين من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية ومحافظين وليبراليين ونساء ورجالا من الأديان الأخرى ومن جميع الشرائح الاجتماعية، بل وإن في صفوفه مسلمون وملحدون وغيرهم. وعندما يستطيع حزب ما من الخروج من دائرة العقيدة المحدودة مهما اتسعت، إلى الدائرة الإنسانية الأشمل فعندها فقط يمكن الحديث عن أهليته لقيادة التغيير، وفي هذا درس آخر أتمنى أن يتلقفه من يعنيه الأمر.
ونرى الكثيرين من مسئولي الحكم في العراق اليوم يتحدثون عن آليات اقتصاد السوق لانتشال العراق من محنته الاقتصادية، وهنا أشير إلى ثلاثة من رموز تحالف الحكم في العراق وهم تحديدا طارق الهاشمي وعادل عبد المهدي وبرهم صالح، كون الأولين يمثلان طرفين من أطراف الإسلام السياسي الحاكم فعلا بينما يمثل الثالث الطرف الليبرالي ولا أقول الكردي لأن الطيف الكردي مثله مثل بقية الطيف العراقي متلون ومتعدد أكثر مما يظن الكثيرون من المراقبين الخارجيين. والثلاثة بطبيعة الحال ليسوا بجاهلين لما يعنيه اقتصاد السوق وما يحمله من تبعات سياسية تتمثل بالسياسات الليبرالية واستقلالية القضاء والليبرالية السياسية والحقوقية المترتبة على ذلك كما تحدثنا تواريخ العالم، وأتساءل هنا أن كان الأولان يتحدثان كمسئولين في الحكومة أم باسم أحزابهما البعيدة كل البعد عن مثل تلك المفاهيم، و أتمنى بالطبع أن يكون ذلك باسم الاثنين معا، وأن يكون ذلك مرحلة تطور أيديولوجي نحو الواقعية السياسية للحزبين ولأحزاب الإسلام السياسي عموما التي لا تزال بحاجة إلى مراجعة مستمرة لمفاهيمها عن الوطن والشعب، بل وعن الإله ذاته بعد أن أقحموه في أتون السياسة رغما عنه.
وفي نهاية الأمر، فإن المصالحة مهما كان شكلها وتفاصيلها، معلنة أم ضمنية، أمر محتوم عاجلا أم آجلا وهو الطريق الوحيد لتأسيس الدولة الأم الشاملة للجميع ولإرغام المحيط العربي وغير العربي على قبوله مرة أخرى متعددا وجديدا بالرضا أم بقوة الأمر الواقع، وعندها فقط سينضم تاريخ نظام البعث إلى كتب التاريخ التحاقا بالجمهوريات القاسمية والعارفية والحقبة الملكية وما قبلها.