quot;طول العمر.. وداعتكمquot; (زميل قبل ثلاثين عاما)
قبل سنوات طويلة، كنا مجموعة من الشباب نتحدث همسا عن الحرب العراقية الإيرانية التي كانت قد اندلعت توا. كنا نجتمع كلما أمكن الأمر في أحد تلك الأماكن الحميمة في شارع أبي نواس بمحاذاة دجلة برفقة عرق العصرية وسجائر بغداد، مع ما تيسر من quot;التكةquot; والسلطة، نثرثر في السياسة والشعر والحب والعالم. أغلبنا كان يساريا، والبعض لامنتميا. كان طه ياسين رمضان قد أعلن في الصحف العراقية (جميعها نسخ من الثورة صحيفة البعث) بأن الحرب قد تطول لعام أو عامين، وكنا نتقافز في الحديث من احتمالات المستقبل، إلى الجواهري ومظفر النواب، وإلى زميلتنا في الجامعة quot;سquot; وصديقها المطرب quot;صquot;، وإلى الحب في هذا الزمن الصعب، وإلى عصر صدام حسين ومغامرة أنور السادات، وبالطبع إلى الحرب التي لم نكن ندرك مداها بعد، نرقبها ونقرأ عنها ولا نعرفها. حتى وصل بالصدفة فلان، و فلان هذا زميل لا يكلم أحدا إلا لماما، أشبه بشخصيات كولن ولسن أو سارتر، لا تراه حليقا أبدا، يكتفي بالتعبير عن سخريته بحركة quot;الإصبعquot; الشهيرة التي كان يقوم بها بطقس خاص عبر إدخال يده في باطن سترته المثقوبة ويخرجه من إحدى الثقوب ملوحا.
أستأذن للجلوس معنا وسط دهشتنا، فلم يكن ليجلس مع أحد، وشاركنا قارورتنا اليتيمة، حتى جاء الحديث عن الحرب والتصريحات الأخيرة، حيث أخذ الجميع يفلسف تلك الحرب، فهذا يقول بأنها مسألة عدة أشهر، وذاك يقول عاما أو عامين، وثالث يقول بأنها مسرحية أميركية، حتى تكلم التمثال بعد أن أدخل يده في جيب سترته المثقوبة وأظهر إصبعه الشهير قائلا بسخرية وسط ضحكاتنا: quot; طول العمر.. وداعتكمquot;، quot; والله لتأكلكم جميعاquot;..
لم يأخذه أحد جديا حينئذ، حتى كان ما كان، واستمرت الحرب لسنوات طوال لم نعد نلتقي خلالها إلا نادرا حتى توقفت اللقاءات تماما، فلم يعد أحدنا يعرف مصير الآخرين بعد أن quot;أكلتنا quot; الحرب جميعا حسب نبوءة فلان. لقد التهمتنا بدنيا ونفسيا، فقتل من قتل، وهاجر من هاجر، و بقي من بقي حطام إنسان بعد سنوات الحريق الأعمى، وجاءت حروب أخرى ولا تزال أخريات في الأفق ولم يعد أي منا يذكر الآخرين أو يعرف مصيرهم بعد ثلاثة عقود من العبث الدموي الشامل، بل ولم يعد يذكر أجواء ما قبل عصر الحروب، وبالطبع لا يعرف أحد مصير فلان، المتنبئ الساخر.
وإذ تعود إلى الذاكرة تلك الأيام كشريط سينمائي يختزل العمر بين ريعان الفتوة وسطوة الكهولة، تعود إلى المرء صور الأحلام الكبيرة التي لم يتحقق منها شيء بعد أن أظهرت لنا أقدار وطننا بأن مجرد البقاء على قيد الحياة هو إنجاز لا يستهان به، بعد أن يراجع المرء كشف حساب من رحل ولم يعد، ومن عاد في كفن، ومن فقد عقله، ومن فقد أحبابه، ومن فقد حلمه، وهذا يشملنا جميعا.
تعود هذه الذكريات والمرء يراقب العراق وأقداره الدموية، والطائرات الأميركية والسيارات المفخخة والانتحاريين المجانين وميليشيات الموت، التي جاءت جميعا امتدادا لعصور المخابرات والحرس القومي والجيش الشعبي وحروب الشمال والجنوب والشرق والغرب، بل وما قبلها مما يمتد إلى المئات من السنين. لم يمنح أحد للعراق الفرصة ليكون وطنا، بل كان دوما شعارا، قوميا أو دينيا، يحتاج المرء فيه إلى هوية إضافية بالإضافة إلى هويته العراقية ليتمكن من البقاء على قيد الحياة فبات قوة طاردة لأبنائه في الوقت الذي يكون فيه أحوج إليهم جميعا.
وإن تبخرت الأحلام الكبرى، فإن هنالك شيئا ما في العراق لا يزال باعثا على الأمل وإن صغر، ذلك ما ندعوه بقوة الحياة التي لا يمكن أن ينتزعها من العراقيين أحد، فرغم كل الأحزان، وعقود الموت، والعزلة العالمية والإقليمية، ما زال العراقيون يضحكون وينكتون، ويذهبون إلى المطاعم والمتنزهات، ويبنون قدر ما أمكنهم، ويلعبون كرة القدم، ويرسمون ويمثلون، ويتحدثون بأمل عن غد أفضل، ويحبون ويصيغون قصائد حب، في رسالة إلى العالم بأن العراق لا يمكن اختزاله بنظام حكم أو بشعار، أو بدين، أو بأيديولوجيات.
إذا كان لنظام حكم أن يعيد بناء العراق، فعليه أولا أن يحرر الإنسان من الخوف، فالخوف سلاح الدمار الشامل الأقوى، وهو أداة الإرهاب الأولى قبل السيارة المفخخة والحزام الناسف. quot;أخيفك فتمتنع عن الحياة وتقبع في منزلك منتظرا مصيركquot;، هذه هي فلسفة الإرهاب والقمع وهذا هو التحدي الذي واجهه العراقيون ولا يزالون يحاولون اجتيازه. فإن انهار حاجز الخوف، فلن يبقى هنالك مسؤول فاسد أو مجرم طليق، ولن يظهر بالتأكيد طاغية جديد.
quot;أنا لا أريد أن أخاف..quot;، قال الروائي نجم والي مبررا غربته واختياراته، و نرددها جميعا معه لئلا تتحقق نبوءة زميلنا القديم: quot;طول العمر.. وداعتكمquot;.