لـquot;نزرع في قلوبنا شجرة خضراء لعل طائرا مغردا يأتي ليحط عليها يوما ماquot; مثل صيني
بعد ست سنوات من التجريب العشوائي والبحث العبثي عن نظام يزاوج بين المتناقضات الاسلاموية والديمقراطية، والفئوية والوطنية والإقليمية، وبين هذه المنتمية إلى القرن الحادي والعشرين وتلك التي تعود إلى القرن السابع، وبعد ست سنوات من الدم والقيظ، تعود حليمة لعادتها القديمة وتعيد إنتاج نفسها بكل أخطائها، وكأن شيئا لم يكن، وكأن الدماء لم تسل، وكأن النهر لم يجف. وها نحن اليوم نستمع طائعين مخدرين إلى ذات الاسطوانة المشروخة، وقصص التحالفات الانتخابية والائتلافات القديمة الجديدة، ومعارك كسر العظم وكسر الظهر التي يدفع ثمنها مساكين العراق دما ودموعا.
لقد باتت حياتنا بمجملها سياسة ومناسبات انتخابية، ما أن ننهض من واحدة حتى نغرق في أخرى، فلا وقت هنالك للتنمية والكهرباء والماء والتعليم والصحة، ولا لخطط خمسية وعشرية، ولا لجفاف النهرين ولا لموت البصرة ملوحة وعطشا، ولا لتراجع الإنتاج الزراعي ولا للانهيار البيئي، ولا لبناء مجتمع مدني، ولا لحماية الإنسان العراقي من عجلة الموت الرهيبة، والقائمة تطول في ظل دستور يأنف عن ذكر المواطنة ويتفرد عن دساتير أوطان العالم بابتكار ثقافة quot;المكوناتquot; التي تعني ببساطة إلغاء فردية المواطن وتذويبها في quot;المكونquot; بحيث لا يكون مواطنا ما لم يكن جزءا مطيعا من مجموع هلامي ما دون الوطن اسميا ولكنه فوق الوطن فعليا، وبحيث تسود حقوق وحريات جماعية وهمية على الحقوق والحريات الفردية التي تتلاشى تدريجيا لتذوب في حقوق المكون المزعوم.
فباستثناء حفنة من القصائد والأناشيد، لم ينظر العراق لنفسه يوما على انه وطن، فقد اعتاد دور رأس الحربة لأوطان الآخرين وأحلامهم ومشروعاتهم، فهو يموت ويعيش لهم ولأجلهم، ولا يملك حس الشعور بالذات، إذ لم تشهد أجياله عبر العقود تربية وطنية قائمة على احترام فردانية المواطن، وبالتالي فردانية الوطن ذاته الذي يقوم بالفرد ويسقط به، حيث يتفاعل الفرد والجماعة ايجابيا عبر الحقوق المتساوية في الوطن وليس لضيعة إيديولوجية لهذا الفكر أو الدين أو ذاك مهما سما. ومن هنا بات للكلب والقط في السويد والنرويج وهولندا جوازات سفر أكثر احتراما في العالم من تلك التي يحملها المواطن العراقي أو الصومالي مثالا لا حصرا، ذلك لأن المواطن المزعوم ليس بمواطن، بل هو في أفضل أحواله رقم، حياته ومماته سواء، وليس هنالك من وطن يحمي مواطنته، فتراه يخجل من الإفصاح عن هويته التي لا يعتز بها لأنها لم تقدم له ما تقدمه غيرها لمواطنيها، بل لم تقدم له سوى الموت اليومي مهما تغيرت العناوين.
ويبدو أن علة سياسيي- وربما أيضا مواطني- عراق اليوم الرئيسية، بل وربما العلة التي عانت منها أنظمة الحكم السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية حتى الساعة، هي في غياب الوطن الإنساني العصري عن التنشئة والتربية الاجتماعية والأسرية والثقافية والسياسية. فالعراق كان دوما إما رأس الحربة لتحرير فلسطين، أو عاصمة الخلافة، أو مركز الوطن العربي والأمة الإسلامية أو غير ذلك. ولا أريد هنا أن أكرر قصيدة المشروع الوطني التي باتت مضغة في أفواه سياسيي هذا العصر حتى فقدت معناها مثلها مثل الديمقراطية والشفافية وغيرهما، وإنما أتحدث عن مشروع العراق الأصل المتفرد، مشروع تكوين وطن. فمنذ عصور الايدولوجيا التي لم تأفل عندنا بعد، كان العراق دوما ولا يزال جزءا من مشاريع سياسية أشمل، فهو تارة جزء من المشروع البريطاني، ثم السوفييتي، وبعده جاء مشروع الأمة العربية (إيديولوجيا وليس أثنيا أم لغويا) ذات الرسالة الخالدة التي لم يقرأها أحد، ونظيره الإسلامي بشقيه ليكون ساحة فتوحات الإمام الغائب من شق، أو منطلق دولة الخلافة اللادنية العائدة من الماضي السحيق من شق آخر، وأخيرا المشروع الأمريكي والذي لم تتكون ملامحه كليا بعد، هذا إذا كانت له أية ملامح.
ينشأ الجميع في هذا العالم على مفهوم الوطن، باستثناء العراقيين الذين ينشأون على مفهوم اللاوطن عبر التلقين اليومي المدروس وغير المدروس، حتى باتت أجيال متعاقبة منهم تعيش ثقافة عصور الفتنة الكبرى حتى اليوم مقرونة بثقافة المؤامرات الدولية السرية والتي علمتها ألا تجد نفسها إلا في خنادق الحرب مع هذا وذاك في هذا العالم غالبا من أجل أي شيء سوى الوطن، ومن هذا نشأت أجيال السياسيين هذه محتمية بالايدولوجيا من كل حداثة وتمرد وتطور وانفتاح، بل وباتت مقاومتها للتحديث الذاتي تتناسب طرديا مع التقدم الحاصل في العالم المحيط بها، ولذا فلا أسهل عليها الاحتماء بالمشروع الكلي الأكبر، سواء أكان قوميا أم اسلاميا أم إيرانيا أم عروبيا أم أميركيا، ذلك أن الوطن بمعناه العصري الذي قامت على أسسه المدنيات الحديثة لا وجود له في ثقافتها السياسية. وحتى عندما رحبت قوى كثيرة بل فئات شعبية عريضة بالاجتياح الأمريكي للعراق رغم كل عواقبه (ينكر أغلبهم ذلك اليوم)، كانت تحلم بأن تصبح جزءا من المشروع الحداثي الأمريكي، الذي يجب أن تقيمه أمريكا على نفقتها وبرعايتها، فنحن ثقافة تعلمت أن التغيير لا بد أن يأتي من الخارج وعلى نفقته، لأننا جزء ولسنا كلا. حتى من أدعى مقاومة الاحتلال لم يأتي بعراق في تنظيره، ولم يجد سوى إعادة الساعة إلى الوراء نحو الماضي القريب أو السحيق، فهم نتاج نفس الثقافة التلقينية الآنفة الذكر.
بناء على تلك الثقافة، انبرى سياسيو العراق أثناء أزمة تفجيرات الأربعاء وأفكار quot;تدويل الدم العراقيquot; التي طرحت عبر مشروع إدخال الأمم المتحدة في التحقيق، مدافعين عن كل الدول (المشاريع) باستثناء الدم العراقي المسال، الذي لم يجد بواك له. فيتحدث الجميع عن فضل هذه quot;الجارةquot; أو تلك عليهم (وليس علينا كشعب)، ولا بأس ببضعة آلاف من جثث العراقيين فداء للجيران الذين يقتلونهم تفجيرا وعطشا وملوحة. لقد بحث العراقيون عن العراق في أكوام التصريحات التي تلت حادث الأربعاء (وكأنه الأول من نوعه) عن العراق فلم يجدوه، بل وجدوا معارك انتخابية و تملقا واختلافا واتهامات متبادلة وتخوينا وتجريما وكأنهم لم يدفنوا القتيل معا.
الصبر والانتظار والحلم جزء مما تبقى من إنسانية هذا الشعب المنكوب، ولذلك فالأمل باق، وليس لنا إلا أن نزرع في قلوبنا شجرة خضراء لعل طائرا مغردا يأتي ليحط عليها يوما ما، كما يقول الصينيون.
التعليقات