quot;عندما تتأمل الحقيقة وظهرك إلى مدخل الكهف، فلن ترى إلا ظلالا لها على جدرانهquot;(سقراط)

ترددت كثيرا قبل الكتابة عن أربعاء بغداد الدامي أو الأسود كما سماه البعض، خوفا من أن تتغلب العاطفة على المنطق، والحنق على الرؤية السياسية، والأسى على مسارات التحليل، فتأتي المقالة بكائية معتادة تضيع في خضم ما قيل وما كتب، ذلك أن أحداث العراق قد حولتنا إلى كتاب مناسبات ومعلقي أحداث، كما قد يتهمنا البعض إن فعلنا بينما قد يدمغنا البعض الآخر بعدم الاهتمام بقضايا الوطن إن أحجمنا. ولعل خطر تحول الكاتب إلى معلق مناسبات أخطر ما قد يواجهه في طريق بناء رؤية أشمل للأحداث عبر التأمل البانورامي للتأريخ والجغرافيا الطبيعية والاجتماعية والسياسية وبالتالي تكوين رؤيا للنهوض والإنقاذ وهي رسالة كل من يدعي الكتابة في هذا العالم.
يكمن الفرق بيننا وبين أقراننا في الغرب بأننا نكتب في محيط يسود فيه المخفي على المعلن، والمستور على المكشوف، وحيث التجهيل والتمويه والكذب المبرمج ثقافة سائدة على حساب الحقيقة، وحيث تنجح الأنظمة بمهارة تحسد عليها من تكوين جيوش من رجال ونساء القلم يبررون ويطبلون ويزمرون لقضية النظام على حساب قضايا الإنسان منذ عصر الملك الإله مرورا بعصور شعراء الخلفاء والملوك وليس انتهاء بعصور كتبة الأعمدة المكرسة لخصال القائد وقدسيته وشجاعته وفضله على التاريخ الذي أرسله إلى الرعية مخلصا ومنقذا. أما قريننا الغربي فيكتب في مأمن من شرطة ملثمة تداهم منزله وتفرق شمل عياله وتوسعه ضربا وركلا- هذا إن نجا من سجن رهيب في قبو خفي أو سيف يجز رقبته-، ومن شيخ جامع يؤلب عليه جمهور الطائعين، ومن سلطة تمتلك كل شيء من مال وأجهزة ومحاكم وتحتكر حياته وحياة من حوله، وهو ما لن نحلم به ولو بعد ألف عام.
كوارث بغداد الأخيرة حلقة في سلسلة من الجرائم بحق الإنسانية قيد أغلبها ضد مجهول، ذلك أن حقيقة الفاعلين مهما كانوا هي من الأقداس العلوية التي لا يحق للعامة سبر أغوارها، فقد أعلنت الحكومة قبل أي تحقيق بل وبعد دقائق من وقوع الأحداث بأن الفاعلين إنما هم البعث والقاعدة، وأعلن آخرون بينهم نواب (!) بأن الفاعلين هم من بين أحزاب السلطة في صراعها تمهيدا للانتخابات القادمة، وصرح البعض الثالث بأن الفاعل هو هذه أو تلك من دول الجوار ومن غير الجوار، بينما أفاد رابع بأن جيوش باراك أوباما المنكفئة في معسكراتها هي من نسق هذه التفجيرات، وذهب آخرون إلى فرضيات أبعد، والغرض من ذلك كله هو أن يضرب المساكين أخماسا في أسداس ويضيع الفاعل الحقيقي وسط عشرات المرشحين بجدارة كما هو الحال دوما منذ مئات السنين في بلد لا يحاكم فيه قاتل أو فاسد ولا تعلن فيه أسماء أو هويات لقتلة أو مجرمين أو خاطفين.
ربما كان الفاعل أي من المذكورين سابقا، أو خليط منهم، أو طرف آخر لم يذكر بعد، إلا أن الحقيقة الضائعة ستبقى ضائعة ما دامت حياة الآلاف لا يرف لها جفن منهم جميعا. ولا أدري ما معنى أن تكون هنالك عشرات الصحف والفضائيات ولا يسمح لها بحضور جلسة لبرلمان يفترض انه منتخب لتغطية مناقشة جريمة أودت بحياة المئات، وما مصلحة رئيس الجلسة في خروج الصحافة، ولماذا ينتفض رئيس جمهورية على الشاشات لأن الصحافة خدشت أحد نوابه ولا ينتصر لأبرياء قتلوا دفاعا عن مال عام، ولا ينتصر أصلا لشعب بات يتقلص عديده يوميا بسبب جنون العنف الذي لا ينقطع. ألم ينظر أبطال الرئاسات الثلاث أو العشر أو المائة إلى الأعين المتسائلة الدامعة لأبناء الصالحية وغيرهم قبلهم وقد فقدوا الأب وألام والأخ والأخت والابنة والابن والمال والحلال؟ ألا يستحق الأمر فعلا أن تنتفض فيهم بعض من مياه وهواء العراق في عروقهم ليعلنوا جميعا أو أي منهم على الملأ ما يعرف من الحقيقة، وهل يصدقون صراحة بأن كراسيهم وحياتهم أكثر قيمة من حياة تلك المئات أو الآلاف؟
أكرر ما قلته سابقا بأننا ndash; جميع من يمارس فعل الكتابة- لا نصلح لتقييم الأحداث ذلك لأننا لا نعلم، ولا نعرف بما يدور، ولا نملك أية أدلة حول أي شيء سوى ما يقرر السياسيون بمختلف ألوانهم تسريبه لنا، ونغرق دائما في دوامة البحث عن الطيب والشرير والقبيح، فتأتي تحليلاتنا دوما ردود أفعال تحكمها الايدولوجيا والعنصريات والتحزبات والطائفية، ولا نجرؤ على الإقرار صراحة بأن السياسيين قد تمكنوا منا مرة أخرى كما فعلوا دوما عبر العصور، وهاهم يحولون الكارثة الإنسانية إلى تجارة وتصريحات ومعارك سياسية كما كان الأمر دوما.
ولأنني لا اعرف، ولأن غيري لا يعرف، وبانتظار quot;غودوquot; الذي سينبري ويكشف الحقائق، فإنني اتهمكم جميعا حكاما وسلطة ومقاومة، بعثا وقاعدة، أحزابا وأفرادا، معممين ومتمنطقين بالسلاح وبربطات العنق، من سلاطين الترك إلى احتلالات الانجليز والاميركان، ومن حكام اليوم وحكام الأمس، من خلطة الحكم في الخضراء إلى صدام وعبد السلام وعبد الكريم وفيصل وغازي، ومن مود و تشترشل إلى بتريوس و ادرنيو وبوش وأوباما، ومن خامنئي إلى مشيخات الخليج، ومن زعماء العرب المزعومين ومحكوميهم الشامتين إلى زعماء العالم اللامبالين، أقول لهم جميعا بأن دم أهلي في العراق سنة وشيعة، عربا وكردا وتركمانا ويزيديين وأرمنا وكلدانا وسريانا وأثوريين وشبك ويهودا ومؤمنين وملحدين، قاعدين ومهجرين وكل من انتسب للعراق، في رقبتكم جميعا حتى يثبت العكس.