رحم الله الدكتور لمام جبر صاحب أشهر جملة عرفتها مدينة الناصرية في جنوب العراق منتصف ثمانينات القرن الماضي quot; اللي شبكنا يخلصنا quot; لخص بها الرجل رؤيته بطريقته الكوميدية التي اشتهر وذاع صيته في جميع إطراف المدينة بأزقتها المتهالكة quot; وصرايف quot; الخوص وبيوت التنك، التي كانت تصحو على صلاة الموتى من الجنود الذين يسقطون بالحرب، وتنام على صوت داخل حسن ونعاة الموت بمواويلهم التي تفطر القلب في البيوت المظلمة والحانات المنتشرة على طول امتداد نهر الفرات.
كلمة الدكتور ناجي الذي قصد بها ويلات حرب السنوات ألثمان المجنونة التي أكلت الأخضر واليابس،والتي اقل ما يقال عنها حرب اغتيال القدرات ونهب الخيرات وأنهاك وإشغال الأمة بحروب جانبية، كلفت بإنهاء حياته في عيادته وسط المدينة الطبية حينما تم اغتياله بطريقة بوليسية نفذت بأسلوب قذر حينما قرر جهاز المخابرات بالاشتراك الأمن العام بالمدينة بتنفيذ حكم الإعدام بتوقيع صدام حسين نفسه.
لم يعرف عن الدكتور لمام بأنه سياسيا لكنه ضمن الوضع العام في تلك الأحداث الصاخبة يتأثر بها كغيره من المثقفين والكتاب والطبقة الاجتماعية التائهة بين واقع مفروض من السلطة وبين الرفض الصامت بدلالة الامتعاض من الحرب المجنونة،خاصة وان عامة الناس تتهم هذه الطبقة بأنها ارتهنت للنظام الذي كان يغد عليها بفتات من الأموال تكفي ربما لجلسة في اتحاد الأدباء أو نديم في نادي الأعلام، وطبعا إن هذه الفتات تأتي بشروط النشر والتمجيد وتقديم ولاء الطاعة لرأس النظام.
اغتيال الدكتور لمام كان رسالة واضحة لمن يجرؤ في التطاول على النظام ومعيارquot; اللي شبكنا يخلصنا quot; هو بمثابة نطق حكم جمعي لهذه الفئة الصامتة بحق من وضع العراق بهذا الجحيم المهلك، نعم ربما إن وقعها كان مؤثرا عند السلطة حينما كتبت التقارير الأمنية من الناصرية إلى بغداد تهتم الدكتور بإثارة رأي عام من الحرب، فيما أن أغلبية أبناء المدينة يقدرون شجاعته وأخلاقه وحتى وان كانت الأفواه قد أطبقت بفعل الخوف من المصير نفسه، والكثير ممن كانوا يجالسون الدكتور لمام في المقاهي أو نادي الموظفين الذي يقع في وسط المدينة تهربوا من الإجابة عن سبب مقتله، ومن الفاعل، لاسيما وان القتلة تركوه لا أكثر من يوم في عيادته مذبوحا.
وحينما انتهت قصة لمام بمقتله، ونتيجة وقوف أهل المدينة ضد جبروت النظام ببعض الأعمال المسلحة سواء في الاهوار أو الاقضية الأخرى، بادرت بعض الجهات الأمنية بإطلاق نعوت وسمت المدينة quot; بالشجرة الخبيثة quot; كرد فعل مناهض لغرض تلويث سمعة الناصرية، وباتت هذه الجملة تتداول في العراق برمته، إما في حقيقة الأمر إن الشجرة الخبيثة هو اصطلاح عسكري بريطاني في أثناء دخول هذه القوات إلى مدينة الناصرية تربص خلف شجرة كبيرة مجموعة من المدافعين الثوار فحصدوا عشرات منهم، عجزت تلك القوات بالدفاع عن نفسها، لذلك أطلقت عليها الشجرة الخبيثة، لكن quot; الجماعة راقت لهم لتكون مصدر خبث لأبناء المدينة، كما حدث لعشائر الدليم الشجعان حينما أطلقوا عليهم ما يحلوا لهم من نكات تطعن بكرم وعراقية هذه العشيرة، وخاصة إن بعضا من رجالها تصدوا للنظام.
المهم فان قصة الدكتور لمام جبر تعود اليوم بقوتها إلى الشارع العراقي quot; اللي شبكنا يخلصنا quot; لكن بطعم ولون مختلف، وطبعا أتذكر هنا صديقي القاص الرائع محسن الخفاجي quot; عافاه الله من محنته الصحية quot; حينما حجزته قوات الاحتلال بحجة مواقفه وعانى الرجل معاناة طويلة انتهت بالإفراج عنه، كذلك اذكر الصديق القاص والمسرحي نعيم عبد هليل حينما اقتحمت داره في الناصرية قوة من جيش الاحتلال للتحقيق حول قصته القصيرة المتخيلة بضرب برجي التجارة قبل وقوعها فعليا، وكيف أمطره الأمريكان بوابل من الأسئلة.
هذه المواقف ربما تتجمع لتشكل رأي جديد يستند على فضيحة لمام للنظام السابق، فمن يجرا اليوم ليقول quot; اللي شبكنا يخلصنا quot; من هذه الفواجع.
كما أعجب مثل غيري ولليوم كيف لا يذكر الدكتور لمام في هذه الأيام من قبل السلطة، لماذا دائما نتجاهل الدماء التي سالت على طريق الحرية، فكم من الرجال عاشوا السجون وعفونتها، عاشوا التعذيب وقسوته، عاشوا الإبعاد والقهر، لكنهم لا يذكرون ألان.