وضع أي نشاط إنساني سواء کان تجربة سياسية او فکرية، او إبداع فني وماشابه تحت المجهر و تناوله من مختلف الجوانب، يدل من دون أي نقاش على أهمية هذا النشاط و نجاحه في إجتياز الکثير من الحواجز و الحدود العادية.

النشاط الانساني، عندما يثبت على الارض وجوده و يزرع في رحم الواقع ابجدياته، فإنه ولامناص يصبح أمرا واقعا ليس بالامکان تجاهله او القفز عليه مطلقا، وهذا الامر يتجلى بشکل واضح جدا في التجربة السياسية المعطاء بإقليم کوردستان العراق، تلك التجربة التي أثبتت و بشکل فعال و حيوي أهمية و ضرورة و محورية دورها على مختلف الاصعدة(الکوردية و العراقية و العربية و الاقليمية و الدولية)، وصارت محورا و موضوعا مثيرا و حساسا لمختلف المحافل الاعلامية و السياسية و على مختلف الاصعدة مثلما غدت محطا و ملاذا لمختلف الانشطة الاقتصادية و الثقافية و الفنية و ماإليها، حتى عبرت هذه التجربة کل الحواجز و العراقيل المتباينة بوجهها و صارت أمرا واقعا لم يعد تجاهله من لدن بعض من الجهات(ضيقة النفس و الصدر)، عربية کانت أم کوردية، ترکية کانت أم غيرها مفيدا او منطقيا ولذا فإن هذه الجهات لم تجد من بد من التعاطي مع الوضع السياسي الکوردي و السعي للظفر بثمة موطئ قدم لها.

التجربة السياسية الکوردية، وبعد أن نجحت في الاختبار الصعب جدا و الذي خاضته عبر العقد الاخير من الالفية الماضية(ولاسيما بعد أن سعت أطرافا إقليمية و عربية و دولية متباينة لدق أسفين بين الحزبين الرئيسيين و اشعلت نار فتنة تغلبت عليها في النهاية الحکمة الکوردية)، کما أن التجربة إنتصرت و بجدارة على محاولات تحجيمها و لجمها في إطار إنساني مجرد تمهيدا لإرجاعها الى المربع الاساسي الذي إنطلقت منه، لکن ذلك الاضطراد الملفت للنظر الذي شهدته التجربة الکوردية منذ إبرام ذلك الاتفاق الاستراتيجي بين الاتحاد الوطني الکوردستاني و الحزب الديمقراطي الکوردستاني و توجت بزيارات تأريخية للزعيمين جلال الطالباني و مسعود البارزاني الى مختلف عواصم القرار في المنطقة و العالم، بينت و بصورة لاتقبل أي جدل بأن الحديث عن ماقبل ربيع عام 1991، هو حديث لاطائل من ورائه سوى الدوران في حلقة مفرغة او اللهاث وراء سراب بقيعة لايروي الضمئان، ومن هنا، فإن التجربة الکوردية و بعد أن تهافتت عليها الاستثمارات(العربية)و(الترکية)و العالمية، لم يبق من مجال او مساحة متاحة أمام أعدائها و المتربصين شرا بها سوى اللجوء لثغرة التشکيك و الطعن بمصداقية زعمائها و احزابها السياسية الرائدة و المحاولة بکل الامکانيات المتاحة و غير المتاحة لخلق فراغ محدد بينها و بين الشعب الکوردي کمقدمة لعزل هذه الزعامات و تحجيم او تصغير تلك الاحزاب الاساسية التي قادت مرحلة الکفاح و النضال ضد الدکتاتورية، وهذا الامر ليس بالامکان أبدا الاستهانة به و التقليل من شأنه، لأن هنالك دوائر و اوساط سياسية و استخبارية تقف خلفه بقوة، لکن في نفس الوقت، ليس من المنطق او الحکمة أيضا تجاهل و تغافل فطنة و دهاء و حنکـة الزعيمين الکورديين الطالباني و البارزاني و درايتهما في إدارة الدفة بالسفينة الکوردية الى بر الامان وانهما من دون شك يسعيان و بهدوء للمضي قدما بالتجربة السياسية الکوردية و العبور بها من المرحلة الحالية المتقدمة بحق من مختلف الاوجه، الى مرحلة أکثر تقدما و تألقا و بروزا، ومع أن کلا الزعيمين لا ولم يزايدا يوما على شعارات قومية براقة او غير واقعية و لم يسلکا السبل الملتوية، من أجل أهداف سياسية محددة، وانما کانا دوما واقعيين بمعنى الکلمة و صادقين مع الشعب الکوردي الى أقصى حد ممکن. ولئن لم يعلنا الزعيمان المذکوران تمسکهما بضرورة قيام دولة کوردية، لکنهما في نفس الوقت لم يعلنا رفضهما لخيار تلك الدولة او عدم الترحيب بها حال قيامها، وموقفهما هذا وعلى الرغم من أن العديد من الاطراف العربية و الکوردية و الترکيةquot;على إختلاف توجهاتها و ممصالحهاquot;، قامت بالسعي للنيل من هذا الموقف و محاولة تفسيره و تجييره بسياقات تتفق مع أهدافها و أجندتها الخاصة. بيد أن النقطة المهمة جدا التي تمخضت عن موقفي الزعيمين هنا، هي ان مسألة قيام او عدم قيام دولة کوردية، و مسألة الدعوة لدولة کوردية أم التمسك بخيار إقليم کوردي متمتع بشبه إستقلال الى جانب الدولة العراقية، صارت اليوم المحور الاساسي الذي تتجاذب مختلف القوى السياسية اطراف الحديث و النقاش بشأنه.