تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الأخيرة ضد إسرائيل في مدينة quot; قونية quot; التركية، تؤكد تراجع لغة المصالح في علاقات أنقرة وتل أبيب، ولو مؤقتا وانتصار لغة المبادئ الإنسانية، لأول مرة منذ توقيع اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في التسعينات، لقد تحدث الرجل بالتزكية والانجليزية والعبرية لتوصيل رسالته قائلا : quot; الوصية السادسة في العهد القديم تقول quot; لا تقتل quot; ألا تفهمون؟ وما من شك في أن هذا الكلام كشف كذب إسرائيل التي تسعى إلى إقناع العرب بيهوديتها.

أصبح اردوغان بطل القضية الفلسطينية في نظر الرأي العام التركي والعربي، وتناغمت تصريحاته مع نغمات عشرات الآلاف من المتظاهرين حول العالم الذين هالهم بشاعة الجرم التي اقترفته إسرائيل بحق أبرياء، سالت دمائهم في عرض البحر، ويبقى الأهم في كلام اردوغان وصف حماس مجددا بأنها حركة مقاومة تدافع عن شعبها، وليست حركة إرهابية، ودعم الفلسطينيين بكل السبل والسعي لتقديم المسئولين عن جريمة أسطول الحرية إلى القضاء. كما عزز الرجل المنتمي لتيار إسلامي محافظ شعبيته في مواجهة المعارضة العلمانية حين قال quot; إن مصير القدس لا يختلف عن مصير اسطنبول، ومصير غزة لا يختلف عن مصير أنقرةquot;.

لقد أثار رد الفعل التركي إزاء هذه المجزرة الإعجاب والدهشة معا، أما الإعجاب فيرجع إلى أن تركيا العلمانية، التي تؤمن بالقيم الغربية الحديثة، والعضو في حلف الناتو، لم يمنعها ذلك من إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل، والتهديد بقطعها إذا تطلب الأمر ذلك، غير عابئة بما يراه تيار واسع في المجتمع التركي بأن مستقبلها في الغرب وليس في الشرق، وأن مثل هذا التعامل القوي مع إسرائيل قد يؤخر انضمامها إلى الاتحاد الأوربي الذي يلاقى معارضة كبيرة من دول فاعلة مثل ألمانيا.

أما سبب الدهشة من رد الفعل التركي هو أن أنقرة تعد من اقرب دول العالم الإسلامي لإسرائيل، فقد وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو ثلاثة مليارات دولار العام الماضي، فضلا عن العلاقات الوطيدة امنيا وعسكريا، وتمتلك أوراقا كثيرة يمكن أن تضغط بها على إسرائيل، وترتبط بعلاقات وثيقة مع إيران، وسبق ولعبت دورا كبيرا في الوساطة بين سوريا وإسرائيل لتحريك مسار السلام السوري الإسرائيلي، وهي وساطة لم يكتب لها النجاح بسبب سياسة التضليل التي تمارسها إسرائيل، فضلا عن أن واشنطن وتل أبيب تستخدمان المجال الجوي التركي في التدريبات والمناورات العسكرية، وترسل الأولى إمداداتها للعراق عن طريق قاعدة عسكرية في جنوب تركيا.

لقد أكدت مجزرة إسرائيل بحق نشطاء السلام في عرض البحر المتوسط الفارق بين الدول المتواطئة في حصار غزة، والدول الراغبة في كسر هذه الحصار إلى الأبد فعلا لا قولا، كما أوضحت الفارق الحقيقي بين دولة فاعلة هي تركيا، ودول متفرجة وهي كل الدول العربية وعلى رأسها مصر.

إن الأدوار التي تلعبها تركيا الآن في منطقتنا، دليل واضح على غياب الدور المصري والعربي، والسبب لا يحتاج إلى جهد كبير، فقط علينا أن ننظر إلى تجربة النجاح التركية في الداخل، تركيا سياسيا بلد مؤسسات ديمقراطية، تحترم القانون، وترعى حقوق الإنسان، وحزب العدالة والتنمية الحاكم يضم المتدينين الأتراك، وهو أكثر ليبرالية وحداثة وديمقراطية وانفتاحا على الغرب من الأحزاب الليبرالية واليسارية والإسلاميين وغيرهم في عالمنا العربي، والاقتصاد التركي بلغ فيه معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 6 بالمائة هذا العام، متجاوزا التوقعات الرسمية بمعدل 3.5 بالمائة، وانخفض معدل البطالة بنسبة 1.7 بالمائة في فبراير الماضي، فضلا عن نهضة تعليمية شاملة تقودها الحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص، كل هذا يقابله جمود في معظم الدول العربية، وفشل مشروعاتها التنموية، تركيا تغيرت منذ انقلاب الجيش عام 1980 ومرت عليها حكومات، في حين بقيت بلدان العالم العربي عشرات السنين تحت حكم واحد، فمصر مثلا ظلت في مكانها منذ عام 81 وحتى الآن، تحكمها نخبة بفكر واحد فحدث التردي في كافة المجالات، وتراجع الأداء، وعالم عربي عدده يفوق الثلاثمائة مليون متخاذل أمام إرهاب دولة لا يتعدى عدد سكانها التسعة ملايين، وليس هناك أمل في أن يتغير العالم العربي في المستقبل القريب، ويتحول إلى قوة فاعلة يحسب لها حساب، وازعم أن العرب اليوم quot; خارج التاريخquot; وسيظلون أرضا خصبة للابتزاز من القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة لأنهم ارتضوا الخنوع والذل وهي سمات لم تكن من شيم العرب حتى في الجاهلية، وإزاء الحال هذا ستتوالى النكبات عليهم حتى يخرج لهم مثل البطل التركي اردوغان ويقول لهم..ألا تفهمون؟

إعلامي مصري