عندما أنتخب فاليري جيسكار ديستان رئيساً لفرنسا سنة 1974، تم ذلك بفضل دعم وتأييد جاك شيراك الذي فضله على حليفه التقليدي الديغولي جاك شابان دلماس، وتم الاتفاق على تقاسم السلطة التنفيذية بين الإثنين وتبوأ شيراك منصب رئاسة الحكومة بصلاحيات أوسع، ولكن سرعان ما تدهورت العلاقات بين الرجلين وبدأ الرئيس الفرنسي بوضع العصي في دواليب رئيس وزرائه شيراك وعرقلة مساعيه وتجريده من الكثير من الصلاحيات وتجاهله في المحافل واللقاءات الدولية، في حين كان جاك شيراك بأشد الحاجة للتواجد على المسرح الدولي كزعيم لفرنسا ولكن لم يكن أمامه سوى رؤوسا وقادة من المستوى الثاني والثالث وأغلبهم سيء السمعة و ديكتاتوريين من نوع صدام حسيين ومعمر القذافي وأمير عباس هويدا رئيس وزراء الشاه قبل الثورة الإسلامية في إيران، والعديد من قادة ورؤوساء أفريقيين. كانت رحلات جاك شيراك للخارج محاولة منه للابتعاد عن جيسكار ديستان أطول وقت ممكن والابتعاد عن واقعه اليومي المتأزم والضاغط عليه نفسياً. لذلك فكر شيراك بالانفصال عن جيسكار ديستان وتأسيس حزب سياسي مستقل يستلهم الأفكار الديغولية ويسلك النهج الديغولي خاصة في مجال السياسة الخارجية ويبنيه على أنقاض حزب الاتحاد الديموقراطي الجمهوري UDR لكي يكون لنفسه من خلال هذا الكيان السياسي الذي يؤسسه شخصية مستقلة ومحترمة دولياً وأوروبياً ومحلياً بغية أن يكون منافساً قوياً في الانتخابات الرئاسية القادمة سنة 1981 كمنافس لجيسكار وميتران ويتمتع بدعم آلة حزبية منظمة ووفية ومخلصة له وكان يخطط لكي يغدو معروفاً في كل مكان في الأرض ويعرفه جميع الرؤوساء والملوك ويخطبون وده حسب تعبير جان فرانسوا بروبست Jean Franccedil;ois Probst المتحدث الرسمي بإسم شيراك في ذلك الوقت والذي كان يسوقه باعتبار أن شيراك هو الخليفة الشرعي للجنرال شارل ديغول ولجورج بومبيدو وكونه الصديق المقرب جداً للصناعي الفرنسي الأشهر مارسيل داسو منتج الطائرات الحربية من طراز ميراج. وأشيع عن شيراك رغبته الجامحة في تطوير الصناعة الفرنسية بفضل العقود التجارية الكبيرة التي وصفت بـ quot;صفقات العصرquot; التي يبرمها شخصياً مع زعماء ورؤوساء وملوك وقادة العالم الثالث والدول النامية وعلى رأسهم يأتي صدام حسين الذي كان معجباً به أشد الإعجاب. عندما تولى شيراك رئاسة الحكومة الفرنسية لم يكن يعرف الكثير من أسرار الحكم وخفاياه ومناورات السياسيين خلف الكواليس، ولم يكن يمتلك تجربة عملية في ممارسة السلطة، فاستولى على تراث وتجربة ميشيل جوبير في تعامله مع الخارج في مجال بيع الطائرات والدبابات والمعامل والطرق السريعة لدول العالم الثالث والدول النامية، ثم استغل شبكة العلاقات التي نسجها مع العالم العربي وقام بتعيين الدبلوماسي المخضرم والخبير بالعالم العربي سيرج بوادفيكس Serge Boidevaix ذو الخبرة العملية في ميدانه، كمدير لمكتبه وقريب منه، وكان هذا الأخير من أشد المعجبين بصدام حسين، وقد عين فيما بعد كسكرتير عام لوزارة الخارجية ونجح في ضمان استمرار سياسة فرنسا العربية التي تمزج بين الدبلوماسية والتجارة، وبين المصالح الاقتصادية والمخططات الاستراتيجية والعسكرية، وكان رئيس الوزراء الفرنسي يستمع إليه وينفذ نصائحه وتوصياته إلى جانب الاستئناس بآراء مستشاريه بيير جويية Pierre Juillet وماري فرانس غارو Marie France Garaud اللذين نصحا شيراك بإبعاد جيسكار عن العقود والصفقات الكبرى التي توفر العمل والمال والنمو الاقتصادي وتوفر شعبية للسياسي الذي يقودها وينجزها كما أنها توفر المال اللازم ـ بفضل العمولات أو الكومسيونات ـ لصالح حزبه السياسي التجمع من أجل الجمهورية RPR ، وكانت ورقته الرابحة هي العراق والعقود التجارية الهائلة التي هبطت فوق رأسه كالمطر على حد تعبير أحد الدبلوماسيين المقربين من شيراك.

كانت فترة الخطوبة الفرنسية ـ العراقية، قد بدأت في 16 حزيران 1972 وكانت تفوح منها رائحة البترول بدل العطر الفرنسي ، منذ أن صرح صدام حسين في الإليزيه أمام الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، في أول زيارة غير رسميه له لفرنسا، قائلاً :quot; لقد اخترنا فرنساquot;، فهمس بومبيدو في إذن إدوارد بالادور Edouard Balldure معلقاً على شخص صدام حسين قائلاً :quot; يا له من شخصية مدهشةquot;. وكان صدام قد جاء إلى فرنسا يبحث عن شريك غربي لمواجهة السوفيت الذين وقع معهم قبل شهرين من ذلك التاريخ معاهدة صداقة وتعاون، إلا أنه لا يرغب أن يتحول إلى رهينة بيد السوفيت والقوى التي يحمونها في العراق أي الحزب الشيوعي العراقي والأكراد، حيث كان صدام يفكر منذ ذلك الوقت بالتخلص منهما وإخضاعهما لهيمنته وسلطته المطلقة لكنه كان يخشى غضب السوفيت منه، فراح يشيد وبمبالغة بسياسة الجنرال ديغول المستقلة عن الهيمنة الأمريكية والتي أخرجت فرنسا من القيادة المركزية للحلف الأطلسي الناتو NATO وفرضه حظراً على بيع الأسلحة لإسرائيل. من هنا يمكننا القول أن صدام حسين كان بأشد الحاجة إلى حليف غربي وبأسرع وقت ممكن خاصة بعد أن أمم العراق ثروته النفطية الوطنية واستعادة ملكية شركة النفط الوطنية العراقية IPC ـ Iraq petroleum company وكان يخشى من عقوبات وردود فعل انتقامية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. تجدر الإشارة إلى أن شركة نفط العراق تأسست سنة 1929 على يد المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وتقاسمهم ممتلكات شركة النفط التركية Turkish petroleum، وكانت شركة نفط العراق قوية وذات نفوذ كبير إلى درجة أن أحدهم وصفها بأنها quot;دولة داخل الدولةquot; وكان يتشارك فيها عدة شركات نفطية دولية هي شركة النفط البريطانية بريتش بيتروليوم British petroleum وشركة النفط الملكية الهولندية شيل Royal Dutch shell وشركة NED وشركة ستاندارد أويل standard oil NJ وشركة النفط الفرنسية La compagnie Franccedil;aise des peacute;troles ـ CFP وهي السلف الأم لشركة توتال Total الحالية وكل واحدة تملك 23،75% من رأس المال شركة نفط العراق وهناك خمسة بالمائة 5% للجيولوجي الأرمني مؤسس شركة النفط التركية كالوست غولبنكيان Caloste Gulbenkian المعروف بإسم السيد خمسة بالمائة. وكل شركة مشاركة تسحب أو تستخرج كمية من الأطنان من النفط الخام تتناسب وحصتها في رأس المال. نشبت مشاكل عويصة بين حكومة العراق وشركة النفط العراقية بالإسم والتي يمتلكها الأجانب الذين يتحكمون بكمية الانتاج وقد اتهم العراق هذه الشركة بالتعمد في تحديد مستوى الانتاج على نحو منخفض لإبقاء العراق في حالة فقر وعوز وتأخر. وكان الكارتلCARTEL النفطي المالك للشركة يماطل ويتأخر في مد خط أنابيب ثاني لنقل النفط Pipline وطالب بتعويضات هائلة وتعجيزية مقابل موافقته على قانون النفط الذي شرعه العراق سنة 1961 في زمن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، والذي حاول استرجاع ولو جزء صغير من حقوق العراق في ثروته الوطنية في الآبار التي لم تستغل بعد أو لم تستكشف بعد من قبل أعضاء هذا الكارتل النفطي الاستغلالي. لقد أبدى الجانب الأنجلوساكسوني، أي أمريكا وبريطانيا، تصلباً إزاء أية تسوية بين الشركة والحكومة العراقية ورفضوا منح الدولة العراقية أية مشاركة أو نسبة داخل شركة النفط العراقية، بينما كان الموقف الفرنسي ليناً وأكثر تفهماً مما جعل فرنسا أقرب للعراق منها لحلفائها الغربيين، على الأقل ظاهرياً ، في معركة لوي الذراع بين الطرفين المتنازعين على الحقوق، ويمكننا تفسير الموقف الفرنسي على ضوء خارطة المصالح النفطية التي كانت سائدة آنذاك. فالانجليز يستغلون لحسابهم آبار النفط الإيرانية بواسطة شركة النفط الآنجلو ـ إيرانية، والأمريكيون متمركزون بقوة في العربية السعودية بفضل شركة آرامكو ، ومن مصلحة الأنجلو ساكسونيين إبقاء الأوضاع في العراق على ما هي عليه دون تغيير، في حين لم يكن أمام شركة النفط الفرنسية سوى حصتها المتواضعة في شركة النفط العراقية، مقارنة بما يمتلكه الشركاء الآخرون، وبالتالي من مصلحتهم زيادة الإنتاج من النفط العراقي. كان هناك ممثل دائم في بغداد لشركة النفط الفرنسية هو رولاند باريه Roland Bareilles وكان بمثابة سفير ثاني لفرنسا في العراق ويعرف الجميع داخل وخارج الحكومة العراقية ولديه علاقات شخصية مباشرة مع القيادات العراقية المتعاقبة على السلطة. وكان الوحيد الذي أطلعته السلطة العراقية على نيتها بتأميم شركة نفط العراق قبل يوم من إعلان النبأ المتعلق بقرار التأميم وقيل له بالحرف الواحد: quot;إن قرارنا هذا ليس موجه ضدكم وليس ضد مصالح فرنسا وحصتها ويمكنكم الاحتفاظ بمكتبكم وبامتيازاتكمquot; ، بينما طلب من الآخرين المغادرة وإخلاء مكاتبهم ومصادرة محتوياتها حتى أن الحكومة العراقية ممثلة بوزير النفط لم تلغ موعد غداء مع ممثل الشركة الفرنسي في اليوم التالي لذيوع خبر التأميم بينما كانت العاصمة العراقية تغلي بالتظاهرات والمتظاهرين الذين حشدتهم السلطات العراقية وألقت بهم في الشوارع لتأييدها وهم يهتفون بشعار:quot; نفط العرب للعربquot;، وإذاعة بغداد تهنيء القيادة بهذا النصر المبين وتتهجم على الامبريالية الآنجلو ساكسونية. وفي الوقت الذي توعدت واشنطن ولندن بالانتقام ومعاقبة quot;حرامي بغدادquot;، كما كانوا يصفون صدام حسين آنذاك، كان الفرنسيون فرحون وشامتون بحلفائهم. وفي تلك الأجواء المحتقنة قرر الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو استقبال صدام حسين في قصر الإليزيه بالرغم من كون زيارته خاصة وغير رسمية ومع ذلك استقبل بحفاوة بالغة في فرنسا، خاصة بعد أن علم الفرنسيون أن صدام قرر عدم تأميم الحصة الفرنسية في شركة نفط العراق إلا أن عبد الأمير الأنباري الذي كان مستشاراً له ، وأصبح فيما بعد سفير العراق في الأمم المتحدة، نصحه بعدم استفزاز الأمريكيين والبريطانيين أكثر من ذلك وإن المفروض أن يشمل التأميم كافة الحصص في شركة نفط العراق ومن ثم يمكن للعراق إبرام اتفاقيات ثنائية بشروط استثنائية مع فرنسا وهذا ما حصل بالفعل، وبالمقابل تقوم شركة النفط الفرنسية بمساعدة شركة النفط الوطنية العراقية الجديدة المؤممة في تطوير البنى التحتية للشركة وتجهيزها بالمعدات الحديثة والمتطورة وتدريب وتأهيل كوادرها ومهندسيها وتقنييها والتنقيب عن آبار وحقول نفطية جديدة بشروط مغرية . وقد ساهم سفير فرنسا في العراق بين عامي 1970 و 1975 وهو بيير سيرل pierre cerl بإقناع الرئيس بومبيدو بترسيخ أقدام فرنسا في العراق وخطفها من منافسيه الآنجلو ساكسونيين وسد الفراغ الذي تركه البريطانيون والأمريكيون. وأخبره بأن النظام البعثي الحاكم في العراق، رغم صورته المنفرة، وطبيعته الستالينية القمعية، إلا أنه لا يرغب أن يكون جزءاً من الكتلة السوفيتية أو المنظومة الاشتراكية، وقد اقتنع بومبيدو بأطروحة وتحليل سفيره المتخصص بالشؤون السوفيتية والخبير بالكرملين، ولذلك فهو يتحدث عن علم ودراية تامة ويعرف ما يقول ، وكان أول من تنبأ بحدوث قطيعة بين بكين وموسكو ، وأوضح لرئيس الجمهورية الفرنسية بأن صدام حسين لا يحب البريطانيين المستعمرين السابقين لبلده لأنهم يهينوه ويستصغروه ويتقززون منه ويعاملوه بفوقية وهو يشعر بذلك، وأوصى السفير الفرنسي رئيسه بأنه لا ينبغي تضييع هذه الفرصة التي لا تعوض بوضع القدم الفرنسية داخل منطقة النفوذ المحتكرة من قبل الأنجلو ساكسونيين، وهو سعي ورغبة جميع الدبلوماسيين الفرنسيين المخضرمين من الجيل السابق بعد الحرب العالمية الثانية الذين تربوا ونشأوا في أجواء المنافسة الشرسة والصراع والتنافس الفرنسي ـ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط وفي وادي الرافدين على نحو أخص، في أعقاب الحربين العالميتين.