إنه لمن الصعب البحث والتقصي عن مصطلح المؤامرة، الذي يتردد بيننا بقوة ويستخدمه البعض لمواجهة كثير من مشاكلنا الداخلية والخارجية ولتفسير الأمور المحبطة من حولنا، وحقيقة أني لم أجد شرحا وتقسيما واضحا لما تعنيه المؤامرة، لتسهيل معانيها وتحديد أسبابها وتداعياتها.


وبحثت عن معنى واضح لها في صحاح اللغة، فلم أجد إلا أنها كمسمى مأخوذة من فعل أمَرَ، وتأتي بمعنى التشاور، والأمارة!.
ومن الملاحظ أن مفهومها المنطقي العصري المتداول بين الناس: هو أن يأتمر طرفان أو أكثر (المتآمر)، للإضرار بطرف أو أطراف أخرى أي (المتآمر عليه). وأنها تنقسم من حيث الدرجات إلى: مؤامرة فردية/ أسرية/ مجتمعية/ فئوية/ دولية. وأنها تنقسم حسب النوع إلى: ثقافية/ اقتصادية/ جغرافية/ سياسية/ دينية/ تاريخية. والمؤامرة تنقسم من حيث حقيقتها إلى: حقيقية/ أو وهمية متخيلة لا وجود لها إلا في عقلية المتآمر عليه المؤمن (بنظرية المؤامرة). ومن البديهي أن يكون المتآمر أكثر من جهة واحدة، وأن تكون معظم أعمال التآمر سرية، وأن لا تتضح شخصيات الأطراف المتآمرة، وإلا سيصبح ذلك عملية عداء وحرب متكافئة واضحة بين خصمين، لا تآمر فيها.


وقد عُرف التآمر منذ القدم، وقد حفلت الحوادث التاريخية بهذا النوع من العداء، وكان من أوضحها في التاريخ الإسلامي تأمر أحزاب قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، ومشاركتهم الصريحة في المؤامرة بإرسال فرد من كل قبيلة ليقتلوا الرسول، فينتثر دمه بين القبائل (وهذه مؤامرة حقيقية لا تقبل الجدل، ولا وهم فيها)، بينما نجد بعض القصص التاريخية الأخرى مما أطلق عليها بأنها مؤامرة ليست إلا وهم في عقول من عجزوا، أو تعاجزوا عن فهم حقيقة ما يدور حولهم.
وقد أصل الأدب حكاية المؤامرات، التي تحاك في الخفاء في عدة أشكال من أشهرها رائعة الشاعر الإنجليزي/ شكسبير، التي يصيح فيها القيصر المغدوربه بوزيره والخنجر في ظهره: حتى أنت يا (بروتيوس)؟!.


ونظرية المؤامرة (Conspiracy Theory) باللغة الإنجليزية تعني: محاولة فكرية لشرح السبب النهائي لحدث أو سلسلة من الأحداث (السياسية والاجتماعية أو أحداث تاريخية)على أنها أسرار، وغالباً ما يحال الأمر إلى عصبة متآمرة بشكل منظم سري تكون وراء الأحداث. وكثير من منظمي نظريات المؤامرة، المؤمنين بها يَّدعون أن الأحداث الكبرى في التاريخ قد هيمن عليها المتآمرون وأداروا الأحداث السياسية من وراء الكواليس، وأشهر منظمة سرية قيل فيها الكثير، هي حركة (الماسونية)، التي أعطيت أكبر من حجمها الحقيقي، مما جعلها تعشش في مخيلة شعوب ودول كثيرة حتى يومنا هذا.
وقد ورد مصطلح (نظرية المؤامرة) لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920م، ولكن تداوله عالميا لم يكن إلا في1960م، حيث تم بعد ذلك إضافته إلى قاموس (أكسفورد) عام 1997م.

ومن الجلي أن هذه النظرية كثيرا ما تنشأ وتترعرع لدى الشعوب والمجتمعات المتخلفة ثقافيا والضعيفة العاجزة عن صنع الحلول، فهي أقصر الطرق لطرح الحمل عن الكاهل، ولنبذ الشعور بالذنب، ولعدم محاولة تغيير الوضع بما يستطاع. وللأسف الشديد فإن هذه النظرية تعيش بين ظهراني الأمة العربية والإسلامية سواء في الشئون البسيطة الداخلية، أو على مستوى الشئون الدولية السياسية العظمى، وهذا بالطبع ناتج عن طرق الحكم في تلك البلدان، التي لا تسمح للشعوب بالمشاركة في تسيير عجلة الحياة والدولة. كما أن السبب الآخر المهم هو التعمية الثقافية، ومنع حرية الفكر، والرقابة الشديدة وما يتبعها من قهر وقمع.


كما أن إدعاء الخصوصية يؤدي دوما لفقد الثقة بالنفس وللشك والريبة، وعدم القدرة على اقتحام المجالات العلمية والثقافية والتكنولوجية المتجددة، مما يجعل الشعوب تتقوقع على ذاتها وتنحسر، وتحارب كل جديد ومفيد، وتتمسك بفكرة الخصوصية للهروب من ولإنكار المسئولية عن واقع التخلف الذي ترزح فيه.
وقد كان من المتوقع بدخول العالم العربي والإسلامي لعالم الاتصالات الحديثة، واتضاح المعلومة، وارتفاع مستوى الحراك الثقافي، أن تختفي من مخيلتنا نظرية المؤامرة. ولكنا وللأسف الشديد لا زلنا نجدها تنمو وتترعرع، وتسخف من أفق مثقفينا، وتقتل طموح أبنائنا، وتحبط مخيلتهم، وأملهم بمستقبل مشرق، لأننا صنعنا بوهمنا من جميع شعوب العالم أعداء لنا يتآمرون علينا، فتُهنا بخيالنا المريض، وأحجمنا عن تنوير شعوبنا، وعن نشر العلم، والعمل به، والتقدم في الصناعة والتكنولوجيا، وبدء الاعتماد على أنفسنا بدلا عن كوننا أمة مستهلكة كسولة، لا تصبوا يوما لمنزلة الاكتفاء.