بعيدا عن أية إعتبارات وتصنيفات ومواقف مسبقة، فإن رئيس المجلس الأعلى الحالي السيد عمار الحكيم بات يعتبر اليوم بمثابة صورة مظهرية جديدة و مختلفة عما شهدناه وعهدناه من قيادات مجلسية سابقة كانت لها بصماتها الواضحة في تشكيل آلية وهوية هذا التجمع السياسي و العباءة الفضفاضة التي خرج بها النظام الإيراني في عام 1982 وهو يشكل و يؤسس هذا المجلس في ظل أوضاع إقليمية ودولية كانت في منتهى الخطورة و التحول و الحساسية، ففي زمن تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وكان هذا هو إسمه و عنوانه كانت الحرب العراقية / الإيرانية قد دخلت منعطفا تعبويا وستراتيجيا حاسما بعد تقهقر الجهد العسكري العراقي في العمق الإيراني و إنكفاء القوات العراقية من عربستان و إنسحابها للحدود الدولية بعد إسترجاع الإيرانيين لميناء المحمرة في أواخر مايو 1982 و المفاجأة التعبوية التي تمثلت في الإصرار الإيراني على الهجوم في العمق العراقي حتى تحقق الشروط الإيرانية وكانت مستحيلة التحقيق أو القبول وهي إسقاط نظام صدام وتقديمه لمحكمة دولية ثم إقامة البديل الإسلامي الجاهز!!

وهي كما ترون شروط تعجيزية أكثر من كونها واقعية، وجرت بعد ذلك عمليات قتالية رهيبة في العمق العراقي لم تؤد في النهاية سوى لإستنزاف هائل لطرفي القتال، وتلك قصة أخرى و موضوع منفصل!، في خضم تلك الظروف تمكن الإيرانيون بالكامل من الهيمنة على المعارضة الإسلامية العراقية بعد نزع مخالب و أنياب حزب الدعوة الذي دخل في حالة من الإنشقاقات و التشققات كانت تقف خلفها الأجهزة الأمنية و العقائدية الإيرانية وهي أيضا قصة أخرى ومختلفة!

وقتها تفتق الذهن السلطوي الإيراني عن ضرورة تشكيل تنظيم عام يستوعب الحركات الإسلامية الشيعية العراقية فكانت فكرة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والذي كان رئيسه الأول هو رجل الدين الإيراني محمود شاهرودي ( الهاشمي ) رئيس مجلس القضاء الإيراني الأعلى فيما بعد.

ثم أنيطت رئاسة المجلس و الناطقية بإسمه للسيد المرحوم محمد باقر الحكيم، والمجلس الأعلى وفقا لما تقدم كان رؤية ورغبة إيرانية ملحة تمكن الإيرانيون خلالها من إدارة حركة المعارضة الدينية العراقية خصوصا و إن ميزانية المجلس كانت مرتبطة بمجلس الوزراء الإيراني أيام رئاسة المعارض الإصلاحي الحالي وزعيم الحركة الخضراء السيد مير حسين موسوي الذي يمتلك معلومات إرشيفية هائلة عن ذلك المجلس لو أعلنها لفجر مفاحأة من العيار الثقيل، المهم إن المجلس بتركيبته الإيرانية وطبيعته السلطوية ظل محور الإهتمام الإيراني حتى بعد إضطرار النظام الإيراني لتجرع كاس السم و إيقاف الحرب مع العراق في صيف 1988 رغم خفوت صوته الإعلامي إلا أنه ظل مؤسسة قائمة مرتبطة بالسلطة الإيرانية بإنتظار تبدل الظروف و الأحوال وهو ماحصل لاحقا و بسرعة بعد غزو النظام العراقي السابق لدولة الكويت في 1990 وما أحدثه ذلك الفعل الأخرق من تغييرات كبرى في التحالفات و المواقف وهي متغيرات كانت ستراتيجية بكل معنى الكلمة و كأي تشكيلة سياسية اخرى فإن للزمن و المتغيرات تأثيراتها عليه وعلى أوضاعه العامة و الخاصة، فالمجلس بعد الإحتلال الأمريكي للعراق وترؤس المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم له قد تحول لأحد أهم أدوات السلطة البديلة الجديدة و امسكت عناصره القيادية بمواقع قيادية متميزة في الحكم العراقي الجديد وهيمن على الوزارات الرئيسية و الحساسة في العراق كالداخلية و المالية وكل شؤون الدولة الأخرى بل تحول لرقم صعب لا يمكن تجاوزه في الوضع العراقي بما له من ثقل مادي ومعنوي وعلاقات تخادم قديمة وقوية جدا مع النظام الإيراني، ولكن مع وفاة عبد العزيز الحكيم و إنتقال القيادة لولده السيد عمار الحكيم في العام الماضي سمعت همهمات وهمسات سرعان ماتطورت لأصوات واضحة تستنكر عملية التوريث القيادية خصوصا و أن هنالك قيادات أخرى تعتبر نفسها مؤسسة للمجلس ولعبت أدوار كبرى أيام كان السيد عمار الحكيم طفلا يحبو كما يقولون؟

وهذه القيادات القديمة من جيل الحرس القديم باتت اليوم تمثل عقبة حقيقية وخطرا داهما أمام الرؤى و الطروحات المتجددة التي مافتأ السيد عمار الحكيم من الإعلان عنها بين الفينة و الأخرى، فعمار كما هوواضح من تصريحاته و تحركاته و تكتيكاته قد أظهر مقدرة فائقة على المناورة وعلى لعل أدوار توافقية لها مساحتها الوطنية العامة بعيدا عن حالة التخندق الطائفي، كما أن اللغة التي يتحدث بها السيد عمار الحكيم مختلفة شكلا وموضوعا عن اللغة الخشبية للوجوه القيادية القديمة المتجهمة من الحرس القديم الذين وصفهم السيد عمار نفسه بكونهم قد تحولوا لأصحاب ملايين بعد أن أتخمتهم السلطة وهم تحديدا كل من رئيس منظمة بدر أو فيلق بدر هادي العامري، و محمد تقي المولى، وجلال الدين الصغير إضافة لباقر صولاغ، الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب حق في القيادة و التوجيه لخبرتهم وقدم ساحتهم في العمل الميداني وهؤلاء جميعا يمثلون مرحلة ماضية من مراحل العمل السياسي لهم رؤاهم المختلفة جذريا عن رؤية عمار الحكيم الذي تؤكد أوساط قريبة منه بأنه من المعجبين جدا بأسلوب عمل عمه المرحوم محمد مهدي الحكيم الذي إغتالته مخابرات صدام في الخرطوم عام 1988، وهي رؤية تعتمد العمل الوطني الواسع البعيد عن التحزب الطائفي.

عمار الحكيم في موازين السياسة العراقية القائمة حاليا يمثل حالة جديدة ومختلفة عن صورة القيادات الإسلامية السابقة وهو يؤسس بأسلوبه المرن و بتصريحاته التوافقية و بشخصيته الكارزمية لمدرسة سياسية جديدة في الأوساط الشيعية العراقية نتمنى فعلا أن تتطور وتترسخ لتشكل حالة صحية يمكنها من تجاوز أمراض المعارضة التي إنتقلت بحكم طبائع الأمور للسلطة الجديدة، وعمار في النهاية قيادة شابة متحررة من عقد الماضي وصراعاته و إنشقاقاته وهو يواجه في سبيل إعادة تشكيل المشهد السياسي الشيعي العراقي حربا شرسة من اطراف عدة سواءا من الحرس القديم أو من المتضررين من أي منهج تغييري و إصلاحي، وطبعا التغيير في مؤسسات المجلس ألأعلى لا بد أن يشمل التخلص التام من حالة التبعية الإيرانية حتى في الأسماء و العناوين فمثلا ( الشورى المركزية ) وهي القيادة العليا للمجلس أقتبست تسميتها من العبارة الفارسية ( شوراي مركزي )!

والضرورة تؤكد على حتمية تغيير الشكل القيادي و تشكيل مكتب سياسي للمجلس الإسلامي الأعلى العراقي وليس الإيراني يكون عمار الحكيم أمينه العام إن فاز في الإنتخابات الداخلية و يكون البقية أعضاء في المكتب السياسي أو الهيئة التنفيذية أو أي تسمية أخرى! ماهو مهم التخلص من أسر الماضي و من قياداته المتجهمة المتخمة التي لم تعد لديها ما تقدمه بعد أن تكلست، فقيادة عمار الشابة بحاجة لوجوه شابة وقيادية ووطنية تتجاوز التصنيفات الطائفية، فعندما يكون عمار الحكيم قائدا عراقيا فذلك أفضل له بكثير من أن يكون قائدا نجفيا أو شيعيا، لا شك و من خلال المتابعة الميدانية لتصريحات و تحركات السيد عمار الحكيم بكونه بات يمتلك اليوم الخطوط العامة لمشروع وطني عراقي جديد ومختلف وذلك لن يكون إلا عبر الإعتماد على طاقات و كفاءات وطنية عراقية متخصصة لم تتلوث بأفعال و أدران الماضي و لم تشوهها إمتيازات السلطة الجديدة و الطارئة كما أنها لا تحمل من عقد الماضي و أمراضه المستوطنة و المعدية شيئا، في ظل الوجوه السياسية العراقية الكالحة حاليا في المشهد السياسي العراقي يبقى وجه عمار الحكيم مضيئا بالأمل في التغيير الإيجابي، و تحويل المجلس الأعلى من تجمع فضفاض يعمل لصالح المشروع الإيراني المنتهية صلاحيته وولايته لحزب سياسي عراقي هو المهمة الملحة و التحدي الأكبر الذي يواجه بزوغ وتحرر قيادة السيد عمار الحكيم وهو توجه ينبغي أن تتضافر جميع الجهود الوطنية الشابة لدعمه، فصراع عمار الحكيم مع حيتان و ( هوامير ) و ثعالب المرحلة الإيرانية ليس باليسير أبدا، ولكنه قد أثبت قدرة واضحة و متميزة على المناورة و الحركية فإنتقاداته الحادة الأخيرة للفشل الخدماتي الحكومي في موضوع الكهرباء قد إنتقده عليه البعض لكون الحكومة مشملة من جماعته وحلفائه و لكن المنتقدين تناسوا أن عمار الحكيم يوجه رسائل واضحة بأن على قيادات الماضي السحيق التنحي و ترك الساحة لمن هو الأقدر.. طبعا في ليل العراق وغدره التاريخي فإن كل الإحتمالات الكوابيسية قائمة و مرعبة و التحدي الشرس الذي يواجه عمار الحكيم له وجوه حادة و مزعجة وخيارات صعبة، نتمنى مخلصين أن تنتصر الرؤية الوطنية القافزة على أسوار الطائفية النتنة و المتخلفة و أن يحفظ الله الأحرار من كل مكر و سوء، ومكروا و مكر الله و الله خير الماكرين...

[email protected]