الحلقة الاولى

محلات، عشائر.. ودساتير

قد لا يحتاج سيل الحوادث التي ذكرناها إلى أي تأويل أو شرح لمعرفة دلالتها السوسيولوجية. فمخيال المدينة في العراق يزدحم بالصراعات شأنه شأن الريف الحافل بمعارك القبائل. وهذه الصراعات قد لا تشير لشيء قدر إشارتها لظاهرة التعصب التي رسمت خارطة المجتمع العراقي منذ القدم.
الحق أن أفضل من نبهنا إلى مفهومquot;التعصبquot; هو عالم الاجتماع العظيم علي الوردي، وتركز رأيه بهذا الشأن على أن لأهل المدنquot; ثلاث مستويات من العصبية أو الانتماء الجماعي بينما كان للعشائر مستوى واحد من العصبية هي العصبية القبليةquot;. (13) ثم يفصل قائلا أن quot; الفرد الحضري يتعصب قبل كل شيء لمحلته إزاء المحلات الأخرى من بلدته حيث تكون المحلة بالنسبة له كالعشيرة بالنسبة للبدو والريفيين، بيد أن عصبيته المحلية هذه قد تتحول إلى عصبية أوسع نطاقا وهي التي نسميها بالعصبية البلدية ويحدث ذلك حين يهدد البلدة خطر عام، وبذا تتحد جميع المحلات في سبيل الدفاع عن البلدة.أما المستوى الثالث من العصبية عند أهل المدن فهو المستوى الطائفي وهو يظهر عندما تثار قضية طائفية أو تأتي لغزو البلد وتنتمي إلى إحدى الطائفتينquot;(14).
ويخلص الوردي من ذلك إلى أنquot;الطائفية ليست سوى نمط معين من العصبية أي إنها تقوم على أساس من الانتماء الاجتماعي أكثر مما تقوم على أساس من الدين والحرص على سلامة تعاليمهquot;. (15)
هذا إذن درس علينا التعامل معه بجدية: الطائفية التي ستفرغ العراق من أقلياته ذات أساس سوسيولوجي وليس دينيا. وفي الذاكرة من الوثائق الشبيهة بما جرى في عاشوراء 1913 والقرن الرابع وما بعده وصولا إلى أيامنا، في الذاكرة ما يشرح صدر أي quot;متعصبquot; حتى وأن غلفت المفاهيم بمرتكزات مقدسة ذات صبغة دينية.
ليس مهما من منهما أنتج الآخر، التعصب للمحلة أم للدين، إنما المهم أنهما تمازجا لينتجا مفهوما يبدو مقدسا وغير تاريخي هو quot;التعصبquot; ولا شيء غيره.
لنر ـ مثلا ـ كيف كان يعيش أبناء الأديان الثلاثة في بدايات القرن العشرين والنص يعود إلى إبراهيم حلمي. يقول:quot;هذا وأنت تعلم أن أصحاب الديانات الثلاثة كانوا في بغداد قبل زهاء عشر سنوات في محلات خاصة بهم لا يخرجون عنها. بل وكان اليهود في عزلة تامة عن غيرهم لا تعلق بهم بمن ليس منهم اللهم إلا في الأسواق ومعاطاة الأمور التجارية، وما عدا ذلك فكانوا ملازمين بيوتهم لا يترددون إلى دور غيرهم بل ولا يطأون عتباتها لأي غاية كانت quot;. (16)
مفهوم الانتماء للمحلة لا يحتاج هو الآخر إلى أي شرح أو أثبات. بل إن محاولة البحث عن مصاديق له تبدو بالغة السخف فهي مبذولة بسخاء ويمكن تلمسها لمجرد الالتفات إلى جارك. حين درس حنا بطاطو ـ مثلا ـ أحوال المجتمع العراقي في بدايات القرن العشرين كان انتبه للأمر وكتب قائلا أن quot;الإسلام ـ في العراق ـ كان قوة فصل وليس قوة دمجquot; بانيا فكرته الخطيرة من طبيعة التوزيع الطائفي في بغداد. لقد لاحظ الرجل وجود ما يشبه التماهي بين فكرة المحلة ومفهوم الجماعة فثمة محلات مخصوصة لليهود وللآثوريين وللأكراد مثلما توجد أخرى مخصوصة للسنة والشيعة. لا بل أنه لاحظ وجود quot;درابينquot; يسكنها أصحاب المهن كالخياطين والقصابين والضباط وألخ.
والنتيجة التي يخرج بها بطاطو تفيد أنه quot;كان سكان المحلة يعيشون في عالم خاص بهم باستثناء عدد صغير جدا من المتعلمين، كان هؤلاء السكان يغرقون في ضيق حياتهم ونادرا ما كانوا يفكرون ـ هذا إذا فعلوا أبدا ـ بالجماعة بشكل واسع أو بمصالحها ككل أو كان لديهم أي فهم حقيقي لمفهوم هذه الجماعةquot;. (17)
في غضون بحثه المعمق، بهذا الخصوص، ينقل بطاطو ما يسميه دستور محلة quot;البراقquot; النجفية وهي وثيقة طريفة شبيهة بحلف أو quot;سندquot;عشائريquot; كان كتبها أبناء المحلة أثر خروج العثمانيين من النجف عام 1915وخلو المدينة من مظاهر السلطة.
لقد اتفق النجفيون آنذاك على تقسيم مدينتهم إلى أربع محلات من بينها quot;البراقquot; المذكورة. ويبدأ quot;الدستورquot; البراقي بهذه الفقرات:quot;بسم الله الرحمن الرحيم وعونه..إننا نكتب هذه الوثيقة لضمان الوحدة والتماسك فيما بيننا نحن سكان محلة البراق وقد دونت أسماؤنا في ذيل هذه الوثيقة. لقد جمعنا أنفسنا وأصبحنا موحدين ومن دم واحد وأجمعنا على أن يتبع واحدنا الآخر إذا حصل لحينا شيء من الأحياء الأخرى. سوف نهب معا ضد الغريب الذي ليس منا أو ضدنا quot;. (18)
ما يجدر ذكره، بهذا الصدد، أن المؤرخين المنشغلين بدراسة أحوال المجتمع العراقي بطريقة وصفية ذات بعد أفقي، كما هو الحال مع بطاطو مثلا، ما كانوا ليعنوا بتأصيل هذه الظاهرة، ظاهرة الانتماء للجماعات الضيقة وغياب حتى الحس الغريزي بأي انتماء آخر عابر لتلك الجماعات. هم لم يعنوا بهذا التأصيل رغم أن المرء يستطيع، في الواقع، العثور على جذر لذلك الدستور البراقي الطريف، ليس في النبش في أحلاف العشائر حسب، بل في كيفية تخطيط المدن القديمة في العراق كبغداد والكوفة والبصرة.
المقصود هو أن غياب مفهوم الانتماء لهوية عابرة للهويات الفرعية ليس نتاج القرون الأربعة الأخيرة وهي قرون يبدو أن مؤرخي العراق الإجتماعيين المعاصرين اتفقوا ـ ضمنيا ـ على كونها تشكل ما يشبه حقبة متكاملة منقطعة نوعا ما عن الحقب التي سبقتها. إن الأمر قديم جدا، كما نرى، وهو يعود إلى أيام مجيء العرب لأرض السواد. هذا إذا لم نقل أنه يعود إلى عصر ويلات المدن.
يقول عامر الشعبي، حسب رواية quot;فتوح البلدانquot; للبلاذري ـ quot; كنا ـ يعني أهل اليمن ـ أثني عشر ألفا وكانت نزار ثمانية آلاف، ألا ترى أنا أكثر أهل الكوفة وخرج سهمنا في الناحية الشرقية فلذلك صارت خططنا بحيث هيquot;. (19)
المقصود بـquot;الخططquot; هو توزع القبائل في محلات الكوفة. بل الأحرى أن العرب حين مصروا هذه المدينة ما كان ليخطر في أذهانهم فكرة quot;المحلةquot; كما هي في أذهاننا اليوم. وهم حين أسسوا المدينة كانوا أسسوها وفق تصوراتهم القبلية فغدت المحلات quot;أسلافاquot; ومضارب كما هو موجود في ريف العراق حاليا.
نقرأ في quot;تاريخ الكوفةquot; لحسين البراقي هذه المعطيات:quot; يقول اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب في كتاب البلدان: كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بين أبي وقاص لما افتتح العراق يأمره أن ينزل الكوفة ويأمر الناس أن يختطوها فاختط كل قبيلة مع رئيسها فأقطع عمر أصحاب رسول الله صلي عليه وآله وسلم فكانت عبس إلى جانب المسجد ثم تحول قوم منهم إلى أقصى الكوفة، واختط سلمان بن ربيعة الباهلي والمسيب بن نجبة الفزاري وناس من قيس حيال دار مسعود وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن حريث الدور حول المسجد... فأنزل في ودعة الصحن سليما وثقيف مما يلي الصحن على طريقين،وهمدان على طريق وبجيلة على طريق آخر..quot;(20)
ويستمر النص التاريخي الممل ليشرح لنا كيف تقاسمت القبائل المدينة الوليدة حيث كل قبيلة تقتطع جهة من الأرض لسكنها: quot;...وجاء قوم من الأزد فوجدوا فرجة فيما بين بجيلة وكندة فنزلوا وتفرقت همدان في الكوفة، وجاءت بكر وتميم فنزلوا الأطراف وأقطع ـ عمر ـ أبا عبد الله الجدلي في بجيلة فقال جرير بن عبد الله ـ لم نزل هذا فينا وليس منا؟ فقال له عمر ـ انتقل إلى ما هو خير لك. فانتقل للبصرة وانتقلت عامة عن جرير بن عبد الله الى الجبانةquot; (21).
الحق أنه ربما لم يدر في خلد بطاطو أن تقسيم النجف عام 1915 إلى أربع محلات ما كان ليختلف في شيء عن تقسيم الكوفة بعد نزول العرب فيها حيث قسمت إلى أرباع: quot; وعلى كل ربع زعيم يقوم بإدارتها. أما تقسيمها من حيث التخطيط، فكان ذلك المخيم الواسع موزعا توزيعا عسكريا يتألف من سبعة أفواج كل فوج يضم قسما من محلاتها المعروفة باسم قبائلها ولم تكن في الكوفة أولا شوارع بل كانت خليطا من تجمعات سبع كل مجموعة من عدة عشائر تنزل في جهةquot;. (22)
ماذا عن بغداد؟ كيف بناها أبو جعفر المنصور يا ترى؟
إليكم هذه الحادثة: يقول ياقوت الحموي في quot;معجم البلدانquot; وهو بصدد الحديث عن الكرخ أن quot;بطريقاquot; من بطارقة الروم زار بغداد بعد بنائها فسأله المنصور عن رأيه بالمدينة. فقال له البطريق الرومي: quot;رأيت بناء حسنا ومدينة حصينة إلا أن أعداءك فيها معك. قال ـ من هم؟ قال ـ السوقة، يوافي الجاسوس بعلة التجارة والتجار هم برد الآفاق فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد ثم ينصرف من غير أن يعلم به أحدquot;.
وما أن غادر البطريق بغداد حتى أمر المنصورquot;بإخراج السوقة من المدينةquot;. ثم قال لعاملين من عماله quot; اجعلا سوق القصابين في آخر السوق فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. ثم أمر أن يبنى لهم مسجد يجتمعون به في يوم الجمعة ولا يدخلوا المدينةquot;.(23)
الحق أن فكرة إخراج السوقة من المدن وعدم السماح لهم بالسكن جنبا إلى جنب مع quot;عليةquot; القوم فكرة قديمة أيضا وهي تسبق المنصور. أفضل دليل عليها هو طريقة التعامل القاسية مع الموالي وأهل الذمة في أرض السواد إذ لطالما وضعت القيود على حرية حركتهم وسكناهم. بل أن بعض الولاة الأمويين كانوا منعوا الموالي من الدخول إلى الحواضر منعا باتا. وربما اختصر الأمر كله بالعبارة الشهيرة quot;إنما الموالي علوج وقراهم أولى بهمquot;.
إن عزل بعض الجماعات أو طردها خارج المدينة لاعتبارات طبقية أو طائفية أو عرقية أو حتى أخلاقية ـ كما يجري مع الغجر مثلا ـ موجود في كل المدن لكن الأمر في بغداد أخذ دائما شكلا مميزا وذا quot;نكهةquot; محلية. فحين هاجر الجنوبيون إلى العاصمة ابتداء من نهاية الثلاثينيات، مثلا، لم يتم التعامل معهم بطريقة ذات طابع طبقي فقط، رغم أن ذلك هو الشائع، إنما عوملوا على أساس اختلافهم الطائفي أيضا.
لقد عزلوا، قبل العراق الجمهوري، خارج حدود العاصمة، وشيدوا لهم أكواخا حقيرة لا تتمتع بأية ظروف صحية أو معيشية تصلح لسكنى البشر. وإنه لمن المثير للتأمل ألا يرد لهم ولمستوطناتهم أي ذكر في أغلب المذكرات التي كتبها رجال العهد الملكي لدرجة أن أمين المميز يأتي في كتابه quot;بغداد كما عرفتهاquot; على كل شاردة وواردة في quot;بغدادهquot; بما في ذلك أحياء العاهرات والقوادين، ومع هذا لا يشير إلى صرائف الجنوبيين التي انتصبت وسط أملاك عائلته في الكسرة !
هل كان العزل ثقافيا قبل أن يكون طبقيا؟ ربما


الحزب يحتضن المحلة

لنمض أكثر فالأمر مغر، خصوصا حين يصل إلى الوشيجة الغامضة التي تربط بين فكرة الانتماء للطائفة والعرق والدين، من جهة، وبين الثقافات والإيديولوجيات، من جهة أخرى. ويجب، هنا، غض النظر عن الجهة أو الجهات التي تحمل هذه الثقافات أو الإيديولوجيات سواء كانت دولة أم أفرادا تجمعهم فكرة سياسية معينة، شيوعيين، بعثيين ألخ.
إن الأمر، في الواقع لا يقتصر على التزاوج الفولكلوري بين المحلة والعشيرة،إنما يتعدى ذلك في أدبيات التعصب العراقي ليصل إلى الإيديولوجيا بوصفها quot;هويةquot; حداثية جديدة ذات أبعاد كوزموبليتية يفترض بها أن تعبر مرحلة الهويات القديمة كلها، الفرعية والأصلية. الشيوعي العراقي يتوحد في الانتماء مع كل شيوعيي العالم والبعثي العراقي يتوحد في الانتماء مع كل البعثيين والقوميين العرب. هذا هو المفترض.
مع هذا، وبمجرد مطالعة سيرة كسيرة القيادي البعثي هاني الفكيكي في quot;أوكار الهزيمةquot; ستكتشف أن الرجل يعي المأزق جيدا. نعني مأزق تماهي الانتماءات الفرعية مع الانتماءات الأخرى وتشغيل الأولى كموجه استقبال للثانية.
حين يشير الفكيكي مثلا إلى ذكرياته في الكاظمية، يتذكر شكواه ذات مرة لمسؤوله الحزبي جعفر قاسم حمودي من إهمال الحزب هذه المدينة العمالية والشعبية واقتراحه quot;ضرورة تفريغ المزيد من الكوادر الحزبية للعمل فيها خصوصا إن للحزب الشيوعي نفوذا واسعاquot;. (24)
الأحرى أن نفوذ الحزب الشيوعي في مناطق كالكاظمية الشيعية يقابله نفوذ تام للبعثيين فيquot;الأعظميةquot; السنية. ولدى القائد البعثي ملاحظات حصيفة بهذا الصدد:quot;نقطة الضعف الأساسية والدائمة في نظام قاسم تمثلت في السنة العرب ممن انحازوا إلى الموقف القومي والناصري، فالموصل والأعظمية والرمادي وسامراء وتكريت وعانة والفلوجة ظلت قلاعا مناهضة للنظام والشيوعيين ممن وصفوا بالشعوبية والتحالف مع الأكراد ضد العرب والعروبةquot;.(25)
تلميح في محله، وإن كان هناك من يعارضه جملة وتفصيلا. أعني الربط بين الانتماء الطائفي، من جهة، والانتماء العقائدي، من جهة أخرى. فقيادات البعث الأولى كانت شيعية ولم يسيطر السنة عليها إلا في الستينيات بينما كانت قيادات الحزب الشيوعي المبكرة خليطا من السنة والشيعة واليهود وإن سيطر عليها الأخيرون في بعض الفترات والأكراد في فترات أخرى.
مع هذا، يصعب عزل هذا الانتماء عن ذاك والتعامل مع طرائق استقبال الأيديولوجيات بمعزل تام عن الهويات الفرعية لمعتنقيها.
الحق أن لحظة تفجر الصراعات ربما كانت اللحظة الأفضل التي يمكن خلالها تبين هذا التزاوج المفترض. قليل من الباحثين انتبه إلى هذه الظاهرة وكشفوا عنها ومن هؤلاء القلة حنا بطاطو.
لنقرأ هذا النص الفريد الذي يلخص أحداث الموصل عام 1959 في بضعة أسطر، وعذرا من إطالة الشاهد فهو مهم للغاية وساحر بلغته المكثفة:quot;أنارت أحداث الموصل بتوهج لهيها تعقيدات النزاعات التي كانت تهز العراق وكشفت عن وجوه القوى الاجتماعية المختلفة بطبيعتها الأساسية والتراصف الحقيقي لمصالحها الحياتية، ووقف الأكراد واليزيدون لأربعة أيام بلياليها ضد العرب ووقف المسيحيون الآشوريون والآراميون ضد العرب المسلمين وقبيلة البومتوت العربية ضد قبيلة شمر العربية وقبيلة الكركرية الكردية ضد البومتوت العربية quot;(26).
ليس هذا فحسب فالصراع العرقي والطائفي غالبا ما يلتبس بصراعات سياسية واقتصادية، يقولquot; ووقف فلاحو الموصل ضد أصحاب الأراضي وجنود اللواء الخامس ضد ضباطهم وضواحي مدينة الموصل ضد مركزها وعامة حي المكاوي ووادي حجر الشعبيين ضد ارستقراطيي حي الدواسة العربي وضمن حي باب البيد وقفت عائلة الرجبو ضد الاغوات، منافسيها التقليديين وبدا وكأن النسيج الاجتماعي قد تفكك وأن السلطة السياسية قد تلاشت كليا وتحولت الفردانية بتفجرها إلى فوضى وأطلق الصراع بين القوميين والشيوعيين عداوات عمرها من عمر الزمن وشحنها بقوة متفجرة واصلا بها إلى نقطة الحرب الأهليةquot;(27).
وفي الأخير يضع بطاطو يده على الفكرة التي تبنيناها آنفا، فكرة زاوج الانتماءات وعيشها الهانئ في بيت quot;التعصبquot;، يقول: quot;وما أضاف الكثير إلى حدة النزاعات هو الدرجة الكبيرة من التطابق والتزامن بين الانقسامات الاقتصادية وتلك العرقية أو الدينية quot;. (28)


ما من شهود: الجميع قتلى

الأيام التي يتحدث عنها بطاطو، العائدة إلى الخمسينيات تبدو استعادة لعشرات الأيام التي يتحدث عنها مؤرخو بغداد القدامى والمعاصرين حيث الصراع بين المكونات يمكن أن ينشب بين يوم وآخر.
بل وأنت تقرأ النص لن تتمكن من منع نفسك من الابتسام فالشيء ذاته جرى في أعوام الفتنة الطائفية2004ـ 2008: السنة ضد الشيعة، أهالي quot;الشعبquot; وquot;حي أورquot; ضد سكنة quot;الصليخquot; وquot;الأعظميةquot;، سكنة quot;الشعلةquot; ضد سكنة quot;الغزاليةquot;، جيش المهدي ضد قوات بدر، الاثنان ضد البعثيين، كثير من البعثيين ضد جميع quot;العملاءquot; العاملين مع الحكومة، متطرفو السنة ضد صوفييهم، متطرفو الشيعة ضد علمانييهم، وإلى آخر قائمة المتصارعين في المدينة.
تكرار الزمن ودورانه يبدو جد فريد في العراق. ففي الأيام التي نتحدث عنها، أيام الفتنة الطائفية البغدادية، شاع ما يسمى بـquot;فرق الموتquot; وهي فرق ظهرت لتنفذ أجندة مرعبة تتمثل بتصفية أبناء الجماعات المخالفة. كانت الفرق تنتمي للجميع ومع هذا يتبرأ منها الجميع. وإلى أن قرأت كتاب فاضل العزاوي quot;الروح الحية، جيل الستينات في العراقquot; كنت أعتقد أن تسمية quot;فرق الموتquot; غير مسبوقة في تاريخ الذهن الرافديني. لكنني حين راجعت الكتاب المذكورـ صادر سنة 1995ـ وجدت أن المصطلح كان ورد في ذهن العزاوي!
يقول العزاوي عن فتنة ما بعد أحداث الموصل وكركوك:quot;..وبدأت quot;فرق الموتquot; تنفذ عملياتها في وضح النهار.اغتيالات للشيوعيين في كل مكان وخاصة في كركوك والموصل. كان القتلة يطلقون النار على ضحاياهم في أي وقت وفي أي مكان ثم يواصلون سيرهم كأن شيئا لم يكن. ما من شهود أبدا.لأن أي شاهد سوف يتحول بالضرورة إلى متهم بارتكاب الجريمةquot;.(29)
يا للعجب، لكأنك وأنت تقرأ هذه العبارات تصف، دون أن تسمي، ما جرى في عراق ما بعد صدام. ليس المقصود فرق الموت التي انبعثت فجأة بل أجواء سيادة الكراهية والقتل وإقرار الموت من المجتمع بالطريقة التي وصفت. المقصود هو تحول قتل الآخر إلى quot;منطقquot; يتفق الجميع على إنه السائد وأن لهذا المنطق قوة قسر عجيبة تجبر الأفراد على الإقرار به والتعامل معه كتفاصيل حياة.
إن عبارة quot;ما من شهودquot; تكاد تعادل، ولكن بالمقلوب، المحمول الدلالى لعبارة quot;الجميع شهودquot; التي لم تقل حرفيا رغم إنها قيلت ضمنيا. بالتوازي مع ذلك، يمكن للمرء دائما، وما دام الأمر متعلقا بالعراق، قراءة النتيجة المنطقية لـquot; ما من شهودquot; التي كانت بطلة تلك الأيام وهذه.
نقصد بالنتيجة هي هذه السياحة العصابية التي قمنا بها أو التي سيقوم بها الآخرون ومؤداها يقول أن quot;لا ضحاياquot; يمكن رؤيتهم على خشبة المسرح ما دمنا جميعا نمثل دول الجلادين. العكس صحيح أيضا: الجميع شهود، والجميع مشاريع ضحايا. الجميع يرى والجميع لا يرى، الجميع يقتل والجميع بريء. اذ quot;ما من شهود quot; وquot;ما من شهودquot; وquot;ما من شهودquot;.
من ذا الذي أباد الأكراد، ودفن الشيعة أحياء في الجنوب؟ من ذا الذي quot;صكquot; السنة خلف السدة وأباد الآشوريين في quot;الديره بونquot;؟ من ذا الذي هجر اليهود ويجاهد اليوم لنسف الوجود المسيحي في العراق؟
هل هم القوميون، المليشيات، القاعدة، أفكار صدام حسين، أم تراهم كتاب هذه النصوص quot;التعصبيةquot; وقراؤها؟
أسئلة تنفتح على مصاريع أسئلة ولا تؤدي إلى بوابات أجوبة. أسئلة تعيد المرء إلى النفق، نفق هذه النصوص التي لا تزال تقرأنا.

هوامش الحلقتين
13 ـ علي الوردي ـ ملامح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ـ المجلد الأول، الناشر كوثر كوير، الطبعة الأولى 2004 ص 23
14 ـ المصدر نفسه ص 24
15 ـ المصدر نفسه ص 24
16 ـ مجلة quot;لغة العربquot;، المجلد الأول، مصدر سابق، ص 70
17 ـ quot;العراق ـ الكتاب الأولquot;، حنا بطاطو ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الثانية 1996 ص 37
18 ـ المصدر نفسه ص 38
19 ـ quot;فتوح البلدانquot;، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، نشره ووضع ملاحقه وفهارسه الدكتور صلاح الدين المنجد ـ مكتبة النهضة العربية شارع عدلي باشا القاهرة. مطبعة لجنة البيان العربي، الجزء الثاني ص 339
20 ـ quot;تاريخ الكوفةquot;، السيد حسين بن أحمد بن إسماعيل البراقي المتوفى سنة 1332هجرية ـ تحقيق ماجد بن أحمد العطية، انتشارات المكتبة الحيدرية ـ الطبعة الأولى سنة الطبع 1424 هجرية ص 156
21 ـ المصدر نفسه 162
22 ـ المصدر نفسه ص 163
23 ـ quot;معجم البلدانquot;، الشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان 1979، الجزء الرابع ص448
4 ـ quot;أوكار الهزيمة، تجربتي في حزب البعث العراقيquot; ـ هاني الفكيكي، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 1994ص 84
25 ـ المصدر نفسه ص182
26 ـ quot; العراق ـ الكتاب الثالث quot;ـ حنا بطاطو، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الثانية 1996 ص 179
27 ـ المصدر نفسه
28 ـ المصدر نفسه
29ـquot;الروح الحية، جيل الستينات في العراقquot;، فاضل العزاوي، منشورات المدى 1995 ص 64