بدايةً لا بدّ من القول، أنّ طيّ بعض المعارضات السورية(القومية والإسلامية والليبرالية والعلمانية) صفحة خلافاتها في إسطانبول الأخيرة، في محاولة منها لتوحيد صفوفها والعمل تحت مظلة معارضة واحدة، سميت بquot;المجلس الوطني السوريquot;، لهي خطوة هامة في تطور مسار الثورة السورية. هي، بصرف النظر عن المعارضين أو الموالين لها، خطوة هامة في اتجاه الثورة الصحيح، ليس لأن القائمين بها يريدون إسقاط كلّ أركان النظام بما فيه رأسه، كما أراد له الثوار والمنتفضون السوريون على طول الشوارع السورية وعرضها، ولا يزالون فحسب، وإنما أيضاً لأنها خطوة في اتجاه quot;وحدة ممكنةquot;، كان من المفترض لها أن تكون quot;صحيحةquot;، اتفق فيها أهل هذا المجلس ككيان سياسي جديد مع أهل الثورة، لأول مرّة، على ضرورة مدّ اليد إلى العالم، والسماح له بتدخل دولي مشروط، من شأنه أن يحقق حماية أممية لجمهور الثورة الأعزل، من بطش أجهزة النظام وكتائبه الأمنية وإرهاب شبيحته، التي تقصف وتقتل وتنتهك المكان السوري، ليل نهار، منذ حوالي سبعة أشهر، وتتعامل مع المدنيين العزّل بالتي هي أسوأ، حيث تجاوز عدد القتلى بحسب منظمات حقوقية دولية، حتى الآن، الثلاثة آلاف شخص بينهم أطفال، فضلاً عن جرح واعتقال وتعذيب وتشريد عشرات الآلاف، بينهم أطفال ونساء وشيوخ.

لكنّ سرعان ما قوبلت هذه الخطوة، كعادة أهل المعارضة، بمعارضة وquot;لاءاتquot; معارضات سورية أخرى تتحرك في الداخل، ترفض الإنضواء تحت لواء هذا المجلس لأسباب غير قليلة، لعل أهمها، هو قبول هذا الأخير بquot;تدخل دولي مشروط لحماية المدنيينquot;، كما جاء على لسان المتحدث بإسم المجلس د. برهان غليون.

أما هذا البعض من المعارضات السورية، الرافض للإنضمام إلى المجلس الوطني السوري، والذي يتخذ من الداخل السوري، أرضيةً لأنشطته وفعالياته المعارضة، والحق يُقال، فليس quot;بعضاًquot; قليلاً، أو بعضاً quot;هامشياًquot;، يمكن التقليل من شأنه، أو القفز من فوقه.

هذا البعض السوري المعارض، المجتمع والمؤتلف تحت صيغة quot;هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطيquot;، هو بعضٌ كبيرٌ لا يمكن الإستهانة بمعارضته، إذ يضم 16 حزباً عربياً وكردياً، بين قوميين ويساريين وإسلاميين، إضافةً إلى شخصيات مستقلة معروفة ومشهودٌ لها بوطنيتها، مثل مثل عارف دليلة وفايز سارة وهيثم مناع وروزا أبوعلي ياسين وميشيل كيلو وآخرين(بينهم برهان غليون الذي انسحب من الهيئة وانضم إلى المجلس الوطني، لأسباب غير معروفة أو غير معلنة على الأقل).

مع تشكيل المجلس الوطني السوري في إسطانبول، يمكن القول أنّ هناك في سوريا، الآن، كتلتان معارضتان حقيقيتان: واحدة ممثلة بquot;هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطيquot; تقول باللاءات الثلاث(لا للتدخل الخارجي، لا للعنف، لا للطائفية)، لها صبغة داخلية، كونها تتخذ من الداخل مكاناً لأنشطتها المعارضة، يترأسها الناطق بإسم التجمع الوطني الديمقراطي حسن عبدالعظيم، وأخرى ممثلة بquot;المجلس الوطني السوريquot;، تقول بquot;إسقاط كلّ النظام من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وتسمح بالتدخل الخارجي المشروطquot;، لها صبغة خارجية(أو هكذا يُحكى عنها) كونها تتحرك تحت قيادة quot;معارضة الخارجquot;، وتتخذ من الخارج مكاناً لكلّ لقاءاتها وأنشطتها ومؤتمراتها.

نحن الآن، إذن، أمام معارضتين سوريتين متعارضتين ومختلفتين. هي ليست مختلفة فيما بينها شكلاً بل مضموناً أيضاً، ولا على مستوى الأهداف والغايات فحسب، بل أيضاً على مستوى الأدوات والوسائل. فعلى الرغم من قول المعارضَتين بضرورة التغيير والعبور الضروري إلى quot;سوريا جديدةquot;، إلا أنّ سوريا التي يُراد لها في دمشق أن تكون، ليست كسوريا التي يُراد لها في إسطانبول أن تتغيير وتتحوّل:
فهذه تريد من دمشق quot;إسقاط النظام الأمني الإستبداديquot;، وتلك تريد من إسطانبول، quot;إسقاط كلّ النظام بما فيه رأسه بشار الأسدquot;.
هذه تريد quot;الحوارquot; مع رأس النظام، لتحقيق انتقال سلمي سلس quot;ممكنquot; للسلطة، وتلك ترى في أيّ حوارٍ مع هكذا نظام، quot;خيانةًquot; لدماء الشهداء، لأن quot;لاحوار مع القتَلةquot;، على حدّ قول الرئيس المرشح للمجلس د. برهان غليون.
هذه ترفض أيّ تدخل خارجي في ما تعتبره quot;شئون سوريا الداخليةquot;، وتلك تقبل بquot;تدخل خارجي مشروط ومتفق عليهquot;، طالما أن تدخلاً محتملاً كهذا، سيحمي المدنيين من بطش آلة النظام القمعية والعسكرية.
هذه تقبل الوساطة الروسية(كما هي جارية الآن) بينها وبين النظام، وتثمّن مواقف موسكو، وتطالب بأن تواصل هذه الأخيرة quot;تصديها لأي مشروع أممي يسهّل التدخل العسكري الأجنبي في الشأن السوريquot;، حسبما جاء في آخر تصريحٍ لحسن عبدالعظيم لquot;أنباء موسكوquot;. أما تلك فتندد بمواقف موسكو quot;المشينةquot; أو quot;اللاأخلاقيةquot;، حسب وصف بعضهم، وتشكر في المقابل العواصم الأوروبية وواشنطن، على سعيها الحثيث لإنتزاع قرارٍ دولي يسمح للأمم المتحدة بهكذا تدخل quot;صديقquot;.
هذه مرشحة من قبل موسكو، لقيادة الشارع السوري وحراكه إلى quot;تغيير سهلquot; لسوريا من الداخل، يرضي بعض المعارضة وبعض المولاة، في ظل حكم الأسد، أما تلك فهي مرشحة واشنطن وباريس ولندن وبرلين وأنقرة، لتحقيق quot;تغيير بنيويquot; في الداخل السوري، تحت إشراف وحماية دولية خارجية، للعبور تالياً إلى سوريا جديدة، من دون الأسد ونظامه القديم.

التعارض بين المعارضتين، والحال، ليس تعارضاً quot;عابراًquot;، أو تعارضاً quot;تكتيكياًquot; يمكن تغاضي الطرف عنه، كما قد يتصوّره البعض، وإنما هو تعارض بين استراتيجيتين، أو بالأحرى بين سوريّتين: واحدة quot;وطنية ديمقراطيةquot; برعاية روسية، مع الأسد، تريد quot;إسقاط النظام القمعي الإستبدادي الأمنيquot;، وأخرى quot;ديمقراطية مدنية تعدديةquot; ضد الأسد، برعاية أميركية أوروبية تركية، تريد إسقاط كلّ النظام من ألفه إلى يائه.

المعارضتان ليستا مختلفتين في بعض الخطوط العريضة التي ترسم المشهد الثوري في سوريا وقادمها فحسب، وإنما هما مختلفتان في الكثير من التفاصيل أيضاً، وهو الأمر أدى بالبعض من المحسوبين على طرفي المعارضة، إلى quot;إلغاءquot; وquot;تخوينquot; الآخر، وquot;إسقاطquot; quot;الشرعيةquot; عنه، بالتالي، تحت هذا المسمى أوquot;التابوquot; الوطني، أو ذاك.

المعارض السوري الحقوقي هيثم منّاع مثلاً، في كونه أحد أكبر أقطاب معارضي quot;هيئة التنسيق الوطنيةquot; في الخارج، لم يكتفِ بquot;لومquot; أخوانه المعارضين في جبهة quot;المجلس الوطنيquot; فحسب، وإنما quot;خوّنهمquot; تخويناً مبيناً، لإرتباطهم بquot;أجندات خارجيةquot;(أميركية وأوروبية وتركية) quot;مشبوهةquot;، على حدّ قوله. منّاع برّأ الثورة السورية من هؤلاء، ممّن سماهم بquot;المنتقلين بين فنادق خمس نجومquot;، بقوله: quot;هؤلاء لا يمثلون شيئا في الثورة السوريةquot;.

أما حسن عبدالعظيم، فعلى الرغم من ديبلوماسية خطابه وإعتباره المجلس الوطني السوري quot;خطوةً على طريق توحيد المعارضة في كتلتين كبيرتينquot;، كما قال، إلا أنه يرى بأن كتلتهم quot;تمثل 80% من المعارضة السوريةquot;، ولا يقبل بهذا المجلس الذي وصفه بquot;خطوة متسرعةquot;، كquot;ممثل شرعي وحيد للشعب السوري وثورتهquot;، كما جاء في بيان تأسيسه، لا سيما وأنّ quot;كتلتهم سبقت المجلس الوطني في الحصول على الاعتراف من خلال الزيارات التي قام بها سفراء غربيون لمكتبه في دمشقquot;، من هنا جاء رفض عبدالعظيم quot;العمل الوحدويquot; الذي انطلق من إسطانبول، تحت أجندات هكذا مجلس quot;منقوصquot;، لأنها أجندات quot;خارج وطنيةquot; وquot;تمهّد للتدخل العسكري الخارجي الأخطر من الإستبدادquot;، على حدّ وصفه.

أما أهل quot;المجلس الوطني السوريquot;، رغم محاولتهم مسك عصا المعارضة السورية من منتصفها، للتوفيق بين أكبر قدر ممكن بين التيارات والأطراف المعارضة، إلا أنهم لا يتركون مناسبةً إلا ويركزون فيها على quot;اولويتهمquot; كمعارضة تجمع بين الداخل والخارج، في المشروعية للتحدث بإسم الثورة السورية، لأنهم quot;يمثلون الغالبية العظمى من مكونات الشعب السوريquot;(كما جاء في آخر مقابلةٍ لبرهان غليون مع قناة الجزيرة القطرية/ برنامج بلا حدود)، هذا فضلاً عن انفتاح العالم عليهم، وسهولة الأعتراف بهم كquot;ممثل شرعي وحيد للشعب السوريquot;، على حدّ قولهم.

بالنظر إلى الإختلاف الكبير في الرؤى والأهداف والوسائل والأدوات، بين ذهنيتي أو quot;سوريتَيquot; كتلتي المعارضة، راهناً في الأقل، يمكن القول أنّ ما يفرّق هاتين المعارضتين، هو أكثر بكثير مما يجمعها ويوحّدها، وهو الأمر الذي يشي بدخول المعارضة السورية، من الآن فصاعداً، مرحلة جديدة من مراحل الإنشقاق الواضح والإنقلاب على نفسها، أو إلغائها لنفسها بنفسها، ما يعني سقوط المعارضات السورية، مرةً أخرى، في فخاخ النظام التي نصبها لها منذ عقودٍ طويلة مضت، وإلهائها بمشاكلها، وصراعها الدونكيشوتي المزمن مع نفسها أكثر من صراعها مع النظام.

المعارضة السورية، إذ تلغي نفسها هكذا كما أراد لها النظام أن تكون، لم تنجح بعد، في تجاوز خلافاتها، وترتيب وتنظيم بيتها الداخلي، فهل لا نزال في المشهد السوري، بعد مرور حوالي سبعة أشهر على الثورة السورية، التي تنتقل من جنازةٍ إلى أخرى، ومن دمٍ كبيرٍ إلى دمٍ أكبر، أمام quot;نظام قويّ متماسكquot; وquot;معارضة ضعيفة مفككةquot;، أم أنّ دخول المعارضات السورية ككتلتين متعارضتين، في لعبة التجاذبات الدولية والإقليمية في المنطقة، سيحمل معه في قادم الأيام الكثير من المفاجآت والسيناريوهات؟

هوشنك بروكا

[email protected]