حتى اليوم السابع من عمرها تمكن ملاحظة عشرة تغييرات احدثتها انتفاضة الشباب في مصر هي:
1 - نهاية مشروع توريث منصب رئاسة الجمهورية.
2 - ظهور quot; قوة الشعبquot;، اولا من خلال نمو الانتفاضة واستمرارها وامتدادها الى ارجاء الجمهورية كافة، وثانيا من خلال تنظيم quot; اللجان الشعبيةquot; لمواجهة اعمال السلب والنهب وحماية الارواح والممتلكات اثر هروب او انسحاب الشرطة لنحو يومين.
3 - اعتراف مركز القرار، وهو الجيش، بمشروعية ما سماه quot;المطالب الشعبيةquot;.
4- امتناع السلطة الفعلية الحالية، وهي الجيش، عن استخدام القوة في مواجهة المتظاهرين وتأكيد شرعية حرية التعبير.
5 - تصحيح وظيفة قوات الشرطة والمباحث من حماية النظام، وبالقوة اذا لزم الامر كما حدث فعلا خلال quot; جمعة الغضبquot;، الى حماية ارواح المواطنين وممتلكاتهم، وذلك بعد عودة هذه القوات الى الخدمة في اليوم السابع من الانتفاضة.
6 - انتقال السلطة من موقع التصدي العنيف للانتفاضة الى الحوار معها ومع قوى المعارضة عموما.
7 - تآكل سلطة رئيس الجمهورية وهو ما بدا واضحا من خلال خطوات معينة اتخذها مثل اضطراره الى تعيين نائب له، وهذه الخطوة تعني بالتحديد تراجعه عن فكرة توريث السلطة لولده جمال، وايضا الخطوة الأقل اهمية في اقالة الحكومة وتأليف اخرى بديلة.
8 - تآكل، ان لم يكن سقوط، مشروعية الحزب الوطني الحاكم. وهذا بدا واضحا من خلال ما يمكن تسميته quot; اختفاءquot; الحزب بعد quot; جمعة الغضبquot; اختفاء شبه كامل بالمفرد والجمع: ان هذا الحزب الذي يفوق تعداده المليون عضو لم يستطع على مدى ايام الانتفاضة المستمرة اخراج تظاهرة واحدة ولو بعشرات الاعضاء تأييدا لرئيسه او لنظامه السياسي الذي يدين له بالوجود. اما قياداته فقد اصبح احيانا عثور الصحافة على واحد منهم اشبه بربح بطاقة اليانصيب. انه حزب جيب لا حزب عقل شأن احزاب السلطات محدودة او عديمة الشرعية.
9 - انتقال الرأي العام المحلي ثم الدولي من مواقف الحذر تجاه الانتفاضة الى الاعتراف بها وبمشروعية مطالبها، فقد التحقت بها اولا جميع قوى المعارضة، واستقطبت ثانيا شخصيات مهمة من خارج المعارضة لعل ابرزها عمرو موسى الامين العام للجامعة العربية الذي طالب quot; بانتقال سلس للسلطةquot;، وهذا موقف مهم للغاية، وصولا الى انتزاعها تدريجا تأييد اوروبا والولايات المتحدة.
10 - تحريك قوى المعارضة نحو العمل لتشكيل قيادة وطنية موحدة تمثل الانتفاضة في الحوار الجاري الاستعداد له بينها وبين السلطة.

جدار برلين العربي

ان اهمية هذه التغييرات ليست، حسب اعتقادي، موضع جدل. فهي تعبر عن نهايات ظواهر كثيرة مازالت تنتمي الى عالم جدار برلين. وكان سقوط ذلك الجدار عام 1989 قد ترك اثرا كبيرا في كل مكان الا في العالم العربي اذ لم يخلف فيه الا الشيء القليل. وبقي جدار برلين خاصتنا صامدا.
من بين ما انهته انتفاضة مصر: quot; الخيار العربيquot; المعروف باستخدام القسوة بل quot;الابادةquot; ضد المعارضة، ففي ظل عالم اصبح مكشوفا بسبب شبكات الاتصال الحديثة، لم يعد ارتكاب جرائم التنكيل والتعذيب والابادة ممكنا بسهولة.
الفساد المطلق في السياسة والاقتصاد هو الاخر لم يعد سهلا بدءا من هذه الانتفاضة. وكان هذا الفساد quot;رسمياquot; وشائعا الى درجة مريعة في مصر. ولعل توريث رئاسة الجمهورية من اقبح وجوهه. ومن ظواهره ما تقوله مصادر الشركات العالمية الكبرى من ان مصر اصعب البلدان العربية التي تتعامل معها، فلا شيء يعبر فيها من دون طلب رشوة، ويصعب على هذه الشركات غالبا دفع رشى اذ لا يوجد لمثل هذا الدفع بند في ميزانياتها الخاضعة لرقابات مشددة. ولعل هذا الفساد هو اهم دوافع الانتفاضة.
الانتفاضة ايضا تعبير عن بداية نهاية عالم الايولوجيات، عالم جدار برلين، فلم تعد افكار الشوعية والقومية والاسلام السياسي هي ملهمة الثورات والاحتجاجات، وانما الحاجات المتعينة للشباب والناس في فرص العمل والسكن والزواج والتعليم والصحة والمشاركة السياسية ورفض التطرف في المعاناة ومقت الفساد. ولعل عظمة انتفاضة الشباب تكمن في هذا الجانب بالذات، فهي انتفاضة من اجل حياة كريمة وليست انتصارا لفكرة quot; علويةquot;، او اهداف بعيدة من قبيل quot; الوحدةquot; او quot; الاشتراكيةquot; او quot; تطبيق الشريعةquot;.
ولعل هذا الوجه الاخير يفسر غياب معظم quot; المثقفينquot; ونجوم الفنانين عن ميدان التحرير، فهؤلاء جمدوا غالبا عند افكار التحرر الوطني، واعتادوا على جاذبية quot; الأفكار الكبيرةquot;، اوquot;المربحةquot; للشعبية، ولم يلسعوا او يعانوا مما يواجهه الشباب والفقراء والمحتاجون والمعدمون، وهؤلاء يشكلون النسبة الاكبر من السكان. وكم كان غريبا ان يستجيب مثقف من حجم الدكتور جابر عصفور لاستغاثة السلطة بحكومة quot;جديدةquot; تولى فيها وزارة الثقافة في عز انتفاضة الشعب. انه كما نقول بالعراقي quot; مثل قشة مناحرة الجاريquot;(قشة طائفة عكس مجرى الماء). هؤلاء quot; انفصلواquot;، شأن السلطة، عن ما يجري للناس وعن ما يوجع حياتهم.
ان استمرار جدار برلين خاصتنا جعلنا مضرب مثل لدى المفكرين والمؤرخين السياسيين في العالم. فنحن آخر خلق الله الذين يمكن لشرائح كثيرة منهم تأييد طاغية متوحش مثل صدام، او انتاج تنظيم مثل quot; القاعدةquot; او التأثر بجمهورية الملالي، او استمرار حكم رجل عجيب غريب مثل القذافي الذي سيصرف هذه الايام مال قارون لحرف الاتجاه الديمقراطي لدى جاريه الشرقي والغربي. يقول فرانسيس فوكوياما ان quot; الامثلة المعاصرة متعددة عن دكتاتوريات اقلية، جد مكروهة من قبل قطاعات واسعة من شعوبها، ولكنها تنجح في البقاء لعشرات السنين: تلك هي مثلا حالة بعض الانظمة المهيمنة في العالم العربيquot;.
لقد تهاوى جدار برلين في تونس. وهاهو يتهاوى في مصر. ومصر ليست مثل اي بلد عربي اخر، وانما هي المؤثر الاكبر في العالم العربي. منها بدأ quot; عصر النهضةquot; في القرن التاسع عشر وعم، وفيها سقط وأحلت بدله quot; عصر الثورةquot; التدميري عام 1952 وعم ان لم يكن فعليا بالانقلابات فنظريا بتيارات الافكار. على الدوام كان يوم مصر هو غد البلدان العربية الاخرى.

حوار الجيش والانتفاضة


ان ما يجري اليوم في مصر هو حوار لم يصل بعد الى quot; نهاية سعيدةquot; ولا تعيسة، بين قوى الماضي وبين قوى المستقبل، بين مصر quot; الثورةquot; وبين مصر quot; التنميةquot;، بين الجيش من جهة وبين الشباب من جهة اخرى. والقسمة quot;الفكريةquot; بين الجانبين ليست بحدة قسمة الاسود والابيض، ففي الجانبين معا ما فيهما من موروث الماضي ومن اتجاه العصر، لكن بالطبع مع فارق ان تحدي المستقبل جاء بمبادرة من الانتفاضة، بينما الاستجابة غامضة الأفق او المصير جاءت من الجيش.
عام 1952 خرج الجيش المصري من الثكنة مبتدئا دوره السياسي الحاسم. وكان ذلك ايذانا بانطلاق ما سيسميه مؤرخو تاريخ الافكار بquot; عصر الثورةquot; في العالم العربي. ودور الجيش اليوم حاسم ايضا ولكن باتجاهات مختلفة: فهو بالموقف الذي اتخذه من الانتفاضة اكتسب شرعية شعبية وquot;تاريخيةquot; بمعنى الانسجام مع حركة التاريخ. وذلك يعني ان مصدر الشرعية انتقل الى الانتفاضة، والى اغلبية الشعب بالتالي. فلو صدرت من الجيش مواقف كالتي اتخذتها قوات الشرطة والمباحث تجاه المتظاهرين لاهتزت شرعيته كما حدث لهذه الاخيرة بعد quot; جمعة الغضبquot;، بل لكانت القيامة قامت لا سمح الله.
يمكن تحديد مطالب الانتفاضة بحكومة انتقالية تتولى القيام بتعديل دستوري ملائم للعصر، يسمح بانتخابات حرة ونزيهة. هذه المطالب، المتضمنة اسقاط الرئيس مبارك، وصفها بيان للجيش بانها مشروعة. هل سيترجم الجيش موقفه هذا الى الواقع خلال حواره، الذي كلف نائب الرئيس اللواء عمر سليمان القيام به، مع الانتفاضة؟
ان الرد بالايجاب على هذا السؤال يعني وصول الانتفاضة الى quot; النهاية السعيدةquot;، وهي الديمقراطية، وهي دخول مصر نادي العالم الحديث. العالم الذي يقصر شرعية السلطة على مصدر وحيد هو الديمقراطية. ويمكن للجيش، الذي يلعب اليوم دور المؤسسة الحارسة للاستقرار، والشعبية والعاقلة والمحبوبة، ان يواصل دوره السياسي على الطريقة التركية، مشكلا الكيان الضامن لدستور حياة ديمقراطية ليبرالية. وبمثل هذه الوظيفة يكون جيش مصر قد انقلب جذريا من quot; الشرعية الثوريةquot; عام 1952 الى الشرعية الديمقراطية، او من الخروج على الشرعية اذا شئتم الى ضمانة الشرعية، من الانقلاب على الديمقراطية الى العودة للديمقراطية.
وبالتأكيد فان quot; نهاية سعيدةquot; كهذه قادرة على تغيير وجه العالم العربي تغييرا جذريا، اهم مفاعيله الفورية هي وقف اندفاعة العدوى اللاهبة للطائفية والاصولية المتشددة.
قد يصعب تصور امكانية تحقيق مثل هذا السيناريو. واذا كان لهذا السيناريو ان يدور في ذهن شخصية كالدكتور محمد البرادعي، الذي يبدو اكثر الرجال ثقة في مصر اليوم، فهل يمكن له ان يدور ايضا في اذهان الشبان المنتفضين؟هل الديمقراطية هدف ملح بنفس درجة الحاح هدف اسقاط الرئيس مبارك لدى هؤلاء الشبان ؟ ان ظواهر الامور تقدم اجابة سلبية. انهم يعرفون ما لا يريدون وهو مبارك، وهم لا يريدون الفساد ولا البطالة ولا الفقر، ولكن ماذا يريدون؟ ماذا عن ذلك الشيء المركب المعقد البارد العقلاني عديم الجاذبية الشعبية المسمى quot; ديمقراطيةquot;؟ انه بكل تأكيد quot;شيءquot; لا يستطيع بحد ذاته تسيير تظاهرة مليونية لا في مصر ولا في المانيا.
اغلب الظن ان ما يدفع الناس الى مثل هذا الاحتجاج الكبير هو مس عميق وخطير ومؤلم بكرامتهم. والاحساس بالكرامة يتعزز كلما انخفض معدل القمع السياسي وزاد معدل الحرية. وهذا ما حدث في مصر مبارك: انفتاح امام فرص حرية التعبير يقابله انسداد امام فرص العيش الكريم وجمود في المبادرة تجاه المشاكل الطاحنة.
الى اين تمضي انتفاضة مصر؟ من السهل دائما معرفة السيناريو المتفائل، وهو تحقيق هدف الديمقراطية الليبرالية، لانه يمثل اتجاه العصر، موضته اذا شئتم، او quot; نهاية التاريخquot; على رأي فوكوياما. وفي نفس الوقت من الصعب، كما سبق القول، الاعتقاد بامكانية تحقيقه في الظروف الحالية. لكن اكثر السيناريوهات الاخرى تشاؤما لن يمنع الاعتقاد بان مصر قطعت مع انتفاضة الشباب مسافة طويلة في الطريق نحو الديمقراطية. انها دفعة كبيرة باتجاه تجاوز الركن المفقود افتقادا تاما في الحياة السياسية المصرية، وهو التداول السلمي للسلطة، وتنمية جدية لركني حرية التعبير وحرية تأليف الاحزاب الموجودين اصلا بهذه النسبة اوتلك.
واذ بارك الكتاب المقدس quot;اليوم السابعquot; الذي اتم فيه الرب خلق الكون ثم استراح فيهquot; من جميع عمله الذي عمل له خالقاquot;، فان الشعور العام في البلاد العربية على ما يبدو هو ان سباعية مصر اعادت السياسة من الموت الى الحياة. وها نحن ندخل الثامن من quot; ايام مصرquot; بحشد تظاهرة المليون في ميدان.. quot; التحريرquot;.