عندما فاضت عواطف العرب تجاه الثورة الفلسطينية يوما الى السماء اطلق محمود درويش صرخته الشهيرة:quot; انقذونا من هذا الحب القاسيquot;ّ!
كانت عوطف كريمة صادقة من دون شك. لكن الأمر المخيف الذي حذرت منه صرخة درويش هو ما اخذ صورة ايمان بقدرة الثورة الفلسطينية ليس على تحرير فلسطين وحدها حسب وانما على quot;تحرير الأمة العربيةquot;.
وسرعان ما دارت الايام لتؤكد النظرة الثاقبة التي انطلقت منها تلك الصرخة.
اليوم تتكرر عندنا حكاية quot;الحب القاسيquot; مع تونس. ولا يوجد شك في صدق هذا الحب. فالسخط الشعبي السائد على الانظمة الحاكمة في البلدان العربية حقيقة واقعة. وبالتالي فان سقوط اي من هذه الانظمة مبعث فرحة وبهجة. أما الشك، كل الشك، فهو في quot;معنىquot; هذه البهجة أوquot; معنىquot; الأمل الذي تثيره تونس الثائرة في نفوس العالم العربي.
يمكن اختزال سيرة تكون الدول او الامم في الازمنة الحديثة بمرحلتين. الاولى هي تكون الدولة، وهي ما تعرف بمرحلة الاستقلال، او مرحلة التحرر الوطني. وفيها تقوم دولة قوامها حكومة وشعب على اقليم معين بحدود معترف بها دوليا. اما المرحلة الثانية فهي مرحلة التحرر الديمقراطي، وهي التي ينشأ فيها نظام جديد يقوم على ثلاثة ركائز اساسية هي حرية التفكير وحرية تشكيل الاحزاب والتداول السلمي للسلطة.
ولم يوجد نظام جمع هذه المقومات الثلاثة في اي بلد عربي. ففي احسن الاحوال توجد هذه النسبة او تلك من حرية التفكير وتشكيل الأحزاب، احداهما او كلتاهما، ولكن الثمرة الممثلة بالتداول السلمي للسلطة لم تنضج بعد في اي من بلدان العالم العربي.
اكثر من ذلك فان quot;الممانعة الميتافيزيقيةquot; تجاه الديمقراطية مازالت سائدة في الثقافة السياسية والاجتماعية في البلاد العربية: والدليل الواضح هو ضآلة حجم الأحزاب الليبرالية مقابل شيوع الاصولية الاسلامية، والطائفية، والجمود عند أفكار مرحلة التحرر الوطني.
ولذلك فان مضمون او معنى التعاطف العربي مع التغيير التونسي يطرح سؤالا جادا للغاية: أهو تطلع الى قيام تونس بتحرير نفسها وأمل بأن يكون ذلك بداية لتحرير المنطقة من الانظمة التسلطية والانتقال الى الديمقراطية؟
ان من الصعب تماما الرد على هذا السؤال بالايجاب. صحيح ان شعوبنا تكره انظمتها الحاكمة. ولكن كراهية نظام تسلطي او دكتاتوري لا تساوي محبة الحرية او الديمقراطية. الأفكار السياسية المهيمنة ليست ديمقراطية. وفي النصف الاول من القرن العشرين كانت لدينا انظمة ديمقراطية وكانت مكروهة ايضا. وقد quot;ابادتهاquot; ثورات او انقلابات مازالت معدودة بين ايام العرب المباركة.
اذن ينبغي البحث في اسباب التمجيد العربي للتغيير التونسي خارج التطلع الى الديمقراطية. وبصرف النظر عن quot; ماهيةquot; هذه الأسباب يبدو ان أشباح quot; القسوةquot; تحيط هذا الحب العربي. فقد يريد quot; العاشقquot; من quot; الشعب المحبوبquot; ان لا يهدأ، وأن لا يلتفت الى مصالحه، وان يستمر في التظاهر، وان يدمن quot; الثورةquot;، وان يجعل القانون والنظام خلف ظهره. وهذه وصفة جربت واختبرت مرارا، منذ عربي التاريخ القديم المتمرد على كل سلطة، الى ثورات الخمسينيات من القرن الماضي. ورغم نتائجها الكارثية، فانها لم تصبح تاريخا بعد، ومازال الانقسام والصراع حولها دائرا، شأن quot; الفتنة الكبرىquot;.
ومن المؤكد ان هناك من الحب ما قتل. وان الحب حتى في احتدامه المؤدي الى مثل هذه النتيجة لا يفتقد الى الاغراء. ولكنه يظل في الواقع مثل الكره حجابا حاجزا امام رؤية الحقيقة. وصناعة المستقبل تحتاج الى الحقائق اكثر من العواطف.
ولعل الموضوع الأهم ليس هو ما يريده هذا quot; الحب الغامضquot; من تونس وانما ما تريده تونس لنفسها. فهناك حدث كبير صنعته بنفسها. هل ستتولى استثماره لنفسها؟ وهل رهنت نجاح هذا الاستثمار بنتيجة محددة هي الوصول الى الديمقراطية؟
لا شيء يدل على ان الطريق معبدة بشكل يقيني لبلوغ هذه الغاية. فعلى الرغم من ان تونس الأنضج اجتماعيا واقتصاديا بين البلدان العربية لمثل هذا التحول، فان هناك اخطار كثيرة تحدق بها، لعل من ابرزها الموقف من الحزب الحاكم السابق، ثم الجيش، والاصولية الاسلامية.
ان التشدد تجاه الحزب الدستوري quot; المتكلسquot;، وهو احد أقدم الاحزاب السياسية في العالم، يهدد بانقسام او انشقاق وطني يذكر، الى حد ما، بما حدث في العراق بسبب quot; اجتثاث البعثquot;. كما ان ضعف الحياة السياسية، الذي ترتبت عليه احزاب هشة، يقابله جيش قوي يمكن ان يجرب حظه في لعب دور سياسي. واخيرا فان تدفق المال السياسي، quot;الشريفquot; خصوصا، يمكن ان يطلق موجة اصولية تتصدر الحياة السياسية على غرار ما حدث في لبنان والعراق وغزة وصعدة.
هل ستكون هناك حكمة كافية لدى الطبقة السياسية التونسية لمعالجة هذه الاخطار وتجاوزها؟
ان ردود الفعل التي تنامت انطلاقا من اهانة عامل شاب، ومن احتجاجه المأساوي، علامة صحية على تمتع التوانسة بquot; حساسية انسانيةquot; فريدة وسط عالم تسودهquot; حساسية ايديولوجيةquot;. فالناس عندنا نادرا ما تثور من اهانة الحاكم او ظلمه لها، فهذا هو غالبا عمل حكوماتنا واداراتنا، واحيانا هو عمل كل عربي لكل عربي. ان ردات الفعل العربية الشعبية تأتي عادة من عوامل عقائدية او ايديولوجية، احتجاجا على ظلم عدو مثل اسرائيل، او غزو اجنبي، او تعصبا لفكرة، او ضد تعرض لرموز دينية وهكذا. اما ان يقوم احتجاج، ناهيك بثورة، على اهانة الحكومات للناس او اذلالها وابتزازها ونهبها فهذا امر جديد تماما.
ولعل موقف القوى الامنية التونسية، وفي مقدمتها الجيش، من التظاهرات يعبر بدوره عن quot; الحساسية الانسانيةquot; نفسها التي فجرت التغيير. لقد امتنعت قوات الامن التونسية عن استخدام quot; الحل العربيquot; في الوقت الحرج. وهذه سابقة عربية.
انquot; الحساسية الانسانيةquot; هي مقدمة وايضا قاعدة الوعي في مرحلة التحرر الديمقراطي. هي ابنة مرحلة حق الفرد في تقرير مصيره، ابنة مرحلة quot;حقوق الانسانquot;. مثلما ان quot; الحساسية الايديولوجيةquot; هي غالبا ابنة مرحلة حق الأمة في تقرير مصيرها، ودائما ابنة الافكار السياسية الراديكالية: هنا حيث المعتقد أثمن من الانسان. ان أساس الاحتجاج التونسي يكمن بالذات في قلب هذه المعادلة لمصلحة الانسان. والتحدي المطروح هو مدى امكانية البناء على هذا الاساس او التراجع الى ما وراء نقطة انطلاقه. ديمقراطية حقيقية ام تسلطية ربما ارحم وحتى اكثر تنورا ولكن من دون خرق وتجاوز للأفق المهيمن على المنطقة؟
في كل الأحوال ينبغي البناء على سابقة نبيلة في تاريخ العرب الحديث: سقوط حاكم نتيجة تسبب نظامه بمأساة فرد.