بعيدا عن وجه عمر سليمان المتجهّم وعن وجه مرافقه الأكثر تجهّما، كانت لحظة مثالية. لحظة تتوقف فيها القلوب عن الخفقان وتغرق العيون بالدموع وتعجز الألسن عن الكلام.
لقد أسقط الشعب النظام.. سقط محمد حسني مبارك ونظامه.
لحظة تاريخية لمصر وللعالم العربي.. لا داعيَ للكلام فلنصمت. بضع كلمات من سليمان وإنفجرت مصر بصيحات الفرح والهتافات. فلا داعيَ للكلام، أصواتهم أجمل من أصواتنا وبالتأكيد لا نملك تعبيرا يضاهي في روعته تعبيرهم.
quot;بسم الله الرحمن الرحيم، أيها المواطنون، في هذه الظروف العصيبة التي تمرّ فيها البلاد، قرّر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، والله الموفق والمستعانquot;.
بكلمات مختصرة ووجه متجهّم وبعيون شاخصة، خرج عمر سليمان معلنا تنحي مبارك بعد أن كان الأخير قد خرج على الشعب المصري ليل الخميس بخطاب الآمر الناهي. قاموا بما يحلو لهم ليل الخميس، الرئيس المخلوع اليوم لعب دور الطاغية حتى آخر رمقٍ وحين سقط قرر أن يسقط على طريقته الخاصة.. بتعجرفٍ .
quot;في هذه الظروف العصيبة قرر حسني مبارك التنحيquot;، لم يدخل الرئيس المخلوع كلمة الشعب أو الإستجابة للمطالب أو تقديم مصلحة البلاد على أيّ مصلحة شخصية، لم يضع أيًّا من هذه الكلمات في خطاب التنحي.. فهو قرّر وحسب.وكأنه كان يملك خيار البقاء من عدمه، لقد أسقط وخلع وطرد وهذا واقع ما حصل.
كان كما دائما طاغية لا يسمع ولا يرى، يعيش في قصوره العاجيّة فلا يرى خارجها شيئا.
أبى أن يرحل على طريقة بن علي، ولو قدّر لنا أن نقيس مقدار الطغيان، فإن مبارك يتجاوز بن علي بأشواط وإن كانت المقارنة لا تجوز إذ إنّ كليهما نكّلا بطريقة لا تخطر ببال أحد بشعوبهما، وإنّما quot;لخصوصيّةquot; مصر ومنصب الرئاسة فيها، فإن سقوط مبارك كان مدويا أكثر من quot;زميلهquot; التونسي المخلوع.
حين تنحى الملك فاروق عام 1952 جاء في خطاب التنحي ما يلي quot;نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان لمّا كنّا نطلب الخير دائما لأمتنا ونبتغي سعادتها ورقيّها ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولا عند إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش..quot;
كلمات لا وجود لها في قاموس مبارك أساسا، فهو لم يسمع بخير الأمة ولا يتمنى لها السعادة، وهو بالتأكيد لن يعترف صراحة وعلانية أنه قرر النزول عند رغبة الشعب. هو قرر فحسب.
صحيح أنها مجرد كلمات لا تمحو ما اقترفته أيدي الطغاة طوال سنوات تربّعهم على عروشهم، لكنّها خاتمة وفرصة لإظهار القليل من التواضع أمام إرادة الشعوب. فرصة أخيرة للإعتراف بأن كلمة الفصل تبقى بأيدي الشعوب ولو بعد حين، ولكن وبما أن مفهوم السلطة في عالمنا العربي quot;مقلوبquot; فإن الرؤساء لا يرون أن أدوارهم محصورة بخدمة الشعب، على العكس تماما فهُم يعتبرون بأن الشعوب وجدت لخدمتهم ولتحمّل طغيانهم دون إعتراض.
وللمفارقة الغريبة أن يختار مبارك الحادي عشر من شباط/ فبراير للتنحي، يوم سقوط شاه إيران وقيام الجمهورية الإسلامية، وهو الذي يكنّ كرهًا عميقا لإيران كما كشفت وثائق ويكيليكس الأخيرة. ربما كان الأجدر به لو استقال ليل الخميس مجنّبا نفسه مزاوجة تاريخ سقوطه بتاريخ سقوط محمد رضا بهلوي وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران.
لكنه اختار أن يعاند شعبه حتى الرمق الأخير، فليل الخميس خرج بمقاربة أقل ما يقال فيها إنها منفّرة ومقزّزة متوجها إلى الشعب المصري quot;بحديث الاب لأبنائه وبناتهquot;، أيّ أب يسرق الأبناء والبنات ويقتلهم وينكّل بهم ويعذبهم ويشرّدهم ويفقّرهم ويسلب أحلامهم ومستقبلهم.
لا همّ، لقد رحل الطاغية، وكما يقال ما قبل الحادي عشر من فبراير ليس كما بعده.. لقد تكلّم الشعب وفرض إرادته.
أطلق جبابرة تونس شرارة الثورات، وأكمل أبطال مصر المسيرة. صحيح أن مهمة الشعب المصري كانت أكثر تعقيدا من مهمة الشعب التونسي، نظرا للدعم العربي والدولي الذي كان يحظى به مبارك، لكنّ الخطوة الأولى دائما هي الأصعب.. كسر حاجز الخوف والإنطلاق. وهذا ما قدمه شعب تونس للعرب، قدم لهم الأمل بغد أفضل ومنحهم العزم على العيش بكرامة بلا خوف من طاغية يقمع ويقتل وينهب.
لو كنت تونسية.. ولو كنت مصرية.. هل كان شعوري ليكون أكثر حدّة ؟ هل كانت سعادتي لتكون أكبر مما هي عليه. لا أعلم، لن أجزم تأكيدا أو نفيا فلا أملك الجواب. ولكنني أعلم بأنني كعربية أولا وكلبنانيّة ثانيا أشعر بالتماهي المطلق مع الشعبين التونسي والمصري.. تماه أنكره الحكام العرب كحق لنا وفصلوا بيننا بسياستهم الموالية للمشاريع الأميركية والإسرائيلية، حرّضونا على بعضنا بعضًا من خلال طائفية بغيضة وعنصرية مقيتة. أما اليوم فالشعوب العربية أثبتت أنها كينونة واحدة، بهم واحد وأمل واحد ومصير واحد.
أعتذر لأن الكلمات خانتني أمام عظمة إنجازكم، لذلك سأصمت وانصت الى ما تقولونه، فلا شيء مما سنقوله نحن سيضاهي روعة أقوالكم وفرحة تحرركم.. وتحررنا.
- آخر تحديث :
التعليقات