يميل عدد من المشاهدين العرب إلى مشاهدة الجزيرة بينما يميل بعضهم الآخر الى مشاهدة العربية، وبين الأولى والثانية حكاية شعوب وحكام وحرب إعلامية ضروس.
لم تعد الجزيرة مجرد ناقل للخبر منذ ثورة الياسمين في تونس، بل تحولت إلى الخبر نفسه من خلال الدور الذي لعبته حينها. حالها حال أحداث مصر، بحيث أصابحت هي الخبر وناقله. أما العربية فقد وجه لها الكثير من النقد ما دفع بعدد من المعترضين على تغطيتها الى التظاهر أمام مكاتبها في لبنان مثلا.. وفي الوقت عينه وجدت إستحسان جمهورها الذي لمس فيها ما يرضيه.
وبين منع السلطات المصرية الجزيرة من البث وإغلاق مكاتبها في القاهرة وبين تعديل ما طرأ بفعل الضرورة على العربية، حكاية اخرى.
فجأة توقف بث الجزيرة في مصر، إعتمادات مراسليها سحبت ما جعل العربية أمام مهمة جذب مشاهدي الجزيرة في مصر. العربية في هذه المرحلة حاولت التعديل في سياسة تغطيتها فتحوّلت عدساتها إلى ميدان التحرير وإنما هذه المرة من زاوية أخرى- أي لم يعد التركيز على المساحات الفارغة من الميدان - كما خففت من استضافة دعاة ومقربين من السلطة يدعون المتظاهرين إلى العودة إلى منازلهم.
الجزيرة من جهتها، والتي وجدت نفسها مرفوضة من قبل النظام المصري الذي قاطعها رافضًا الحديث معها، لم تتأثر كثيرا بما حصل لانها اختارت منذ اليوم الاول أن تكون نبض الشارع، لكنها وفي معرض فتح هوائها أمام المعارضة جنحت نحو منح الإخوان وقتا وأهمية أكثر من غيرهم من أطياف المعارضة.
محطتان عربيّتان تختصران صراعا سياسيا موجودا على أرض الواقع، لكل منهما جمهوره ولكل منهما شوائبه وعلاته. وفي ما يلي مقتطفات ومشاهدات لتغطية كل من المحطتين.
1-تتوقف الشاشة في محطة الجزيرة في نقل مباشر للأشخاص المتواجدين في ميدان التحرير (خلال الأيام الأولى للتظاهرات)، العدد ليس بكبير ولكنه أيضا ليس بالقليل. في المقابل تخرج مراسلة العربية من مصر مؤكدة وجازمة أن العدد قليل جدا وأنّ ما تبقى منهم يلتقط صورا تذكارية مع الجيش.

2-خلال الأيام الاولى للتظاهرات تضع العربية عاجلا تلو الآخر.. الأول نقلا عن مخرج يليه آخر نقلا عن مطرب (وليعذرني القراء لعدم تذكر الأسماء كوني لم أسمع بها من قبل ولم تعلق الأسماء في ذهني).. الفحوى من هذه العواجل أن المخرج والمطرب كان لديهما ما يقولانه quot;ضد التظاهراتquot;. وبعد ذلك، دأبت على استضافة دعاة يدعون المتظاهرين للعودة إلى منازلهم، كما فتحت المجال أمام مقربين من السلطة للحديث..وما يستحضرني مقابلة مع عضو مجلس شعب مؤيد للنظام وفي تفاصيل ما حدث التالي:سألته المذيعة عن رأيه في ما يحصل، أجاب الرجل سأقول رأيي في ما يحصل ثم صمت وعلا صوته وهو يكاد يبكي لو سقطت مصر ستسقط الدول العربية كلها، لو سقطت مصر سيسقط اليمن وقطر و.. هنا قاطعته المذيعة منفعلة quot;لكن مبارك لم يسقط quot; ليصار بعدها الى قطع المقابلة معه.

3-قطعت إدارة نايل سات بث الجزيرة، وبعد ذلك بساعات حاولت العربية التعديل قليلا فبدأت الحديث عن المتظاهرين في محاولة لكسب مشاهدي الجزيرة في مصر والذين باتوا بلا محطة عقب قطع البث. تعديل جعلها تدخل في متاهة التناقضات في معرض محاولتها تنفيذ سياسةquot; ضربة على الحافر ضربة على المسمارquot;.

4-يهرع عدد من المتظاهرين للوقوف أمام الكاميرات لعرض البطاقات التي تمت مصادرتها من مؤيدي مبارك الذين هاجموا المتظاهرين والتي تظهر أنهم من رجال الأمن أمام الكاميرات. الجزيرة تركز على هذه الصور وتتحدث عنها بينما وفي الوقت عينه تهرع العربية إلى تذيّل شاشتها بخبر عاجل نقلا عن وزارة الداخلية المصرية مفاده : البطاقات التي عرضت مزوّرة.

5-الجزيرة تنقل صورة ميدان التحرير فجرا، والكاميرا مثبتة على المتظاهرين في داخله، وفجأة يسمع صوت إطلاق نار ما خلق بلبلة داخل الميدان. العربية تخرج في نشرة أخبارها بقولهاquot; حصلنا على صور لأشخاص تم القبض عليها من قبل المتظاهرين والذين يقولون إن هؤلاء قاموا بإطلاق النار عليهم !وتتابع المذيعة بتركيبة جمل تشكك بفعل إطلاق النار من أساسه من خلال اعتماد quot;كما قالوا وكما ادعوا quot;.

العربية وبعد انتقادات عديدة طالتها خرجت بتقرير تدافع فيه عن نفسها متحدثة عن دورها في نقل الرأي والرأي الآخر ومفسرة كيف أن عدد مشاهديها قد إرتفع. أما الجزيرة وفي معرض عتب أحد المسؤولين الداعمين لسلطة مبارك جاء الرد بأن الجزيرة حاولت أن تتحدث مع مسؤولين رسميين مصريين لكن السلطات المصرية ورجالها لا يريدون الحديث مع الجزيرة.
كلّ وجد نفسه معنيًا بالدفاع عن نفسه في أحيان كثيرة، لكن هناك واقع لا لبس فيه وهو أن العبرة ليست في نقل وجهات نظر الطرفين وإنما العبرة في أي وجهة نظر يتم نقلها. رأي الحزب الحاكم في مصر كان هو الطاغي طوال فترة حكم مبارك فما الداعي لإعادة تكرار الأسطوانة نفسها التي لا تزال تغني الموّال نفسه منذ ثلاثين عاما.
كتب الصحافي الراحل جوزيف سماحة عن الحياد والإعلام ما معناه أنه لا حياد في الإعلام في خضم معركة تشمل العالم بأسره، فالخيار هو مع أو ضد وليس في مكان رمادي في الوسط.
وفي كل الأحوال فإن الحياد الاعلامي quot;خرافةquot; لا وجود له، فلا إعلام محايد سواء أكان عربيا أو أجنبيا. نقاش لن ندخل فيه الآن لان الحديث عنه لا ينتهي، سواء من حيث التبعية السياسية أو الخضوع لتوجهات المعلن أو الممول. لكن ما هو مؤكد أنه في معركة الشعوب ضد الحكام لم تنتصر العربية ولم تحقق مكاسب على حساب الجزيرة.
الجزيرة إختارت ان تكون نبض الشباب الثائر، بينما العربية إختارت أن تجعل نفسها ساعي بريد ينقل نفي الحكومة المصرية (خلال الأيام الأولى للثورة المصرية) لكل ما يرد من ميدان التحرير من أخبار. وخلال الأيام اللاحقة، حاولت العربيّة أن تعدل في سياستها لكن الغلبة على شاشتها كانت دائما لصالح صوت السلطة.
شخصيا إن كنت سأختار بين محطة قررت أن تكون نبض الشارع وبين أخرى علقت بين نبض الحكام والشارع، فالخيار سيقع حكما على ناقل نبض الشارع. فصوت الحكومات كان الوحيد المسموح بسماعه لأعوام طويلة، لقد حان الوقت لإسكات الحكام والإستماع إلى شعوب قمعت وهمشت وأفقرت واعتقلت وعذبت وقتلت.
لقد رفع شباب مصر وقبلهم شباب تونس صوتهم عاليا ودفعوا الثمن غاليا من شهداء ومعتقلين ومفقودين.. ألا تستحق هذه الدماء الإحترام. ألا تستحق العقول التي خططت ونفذت للوقوف بوجه الطغاة، ولا تزال تقف، التقدير.. ألا تستحق الشعوب العربية المقموعة بعد هبتها أن تجد محطة إعلامية تقول للسلطات الحاكمة quot;إخرسوا لقد سمعنا منكم ما يكفي لعشرات السنين وحان الوقت للإستماع فقط الى أصوات الثائرينquot;.
لا تقف الجزيرة في مصاف الملائكة ولكنها لا تقف في محور الشياطين، لها شوائبها وتسجل عليها ملاحظات عديدة، لكنها رأت وفي لحظة حرجة من تاريخ المنطقة العربية بأسرها أن الوقت حان لكلمة الشعوب.
إنه زمن الشعوب لا الحكام..إنه زمن صوت الشارع الهادر الذي لا يعلو عليه صوت أحد.