واجه المخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد مشكلة كبيرة مع العقيد القذافي الذي مول الفيلم الأيقونة في تاريخ السينما العالمية: عمر المختار، وهو سيرة سينمائية للمجاهد العربي الكبير، الذي أزعج الإيطاليين سنوات طويلة حتى تم القبض عليه، وشنق، ليموت جسداً، بينما بقي بيننا روحاً تطير إلى الذرى، وإلهاما لا يخبو لملايين المجاهدين في سبيل العدالة والحرية.
كانت المشكلة الرئيسية هي أن معمراً كان يريد إشارة له في هذا الفيلم، كونه مموله ومنتجه، بينما رأى المخرج المحترف أن أي تزلف لرئيس دولة، إفسادٌ للقيمة الفنية والتاريخية للعمل. وبعد مفاوضات طويلة وصلا إلى حل وسط: طفل يركض إلى جسد المختار وهو معلق على حبل المشنقة، ويلتقط نظارته التي سقطت منه، وهذه إشارة إلى انه معمر الشاب الذي سوف يكمل المسيرة.
لم أتحقق من القصة التي رواها الصديق نجم عبد الكريم، رغم أنني ألتقيت الراحل الكبير قبل عدة سنوات مضت في الرياض، وكانت كل أحلامه إقناع أمراء الخليج وشيوخه بأن يدعموا مشروع ملحمته السينمائية صلاح الدين الأيوبي، التي كان يريد لها مشروع التقاعد الكبير، ورسالة العرب الكبرى عن السلام والعدالة، بدلا من مايكروفونات العنترة، وقذائف الترهيب.
وأعود إلى ما دونته في أوراقي عن ذلك اللقاء فأجد أشياء أهم، لم يكن من بينها أي حديث مباشرٌ عن حكايته مع ليبيا، واقتطف ما يلي:quot; التقيتُ المخرج العالمي مصطفى العقّاد قبيل ندوة كان يزمعُ إقامتها في العاصمة الرياض. جلسنا في أحد جنبات فندق الانتركونتيننتال ببدلته الأنيقة، وخصلات شعره الأشيب، فيما هو يوقد غليونه ويتحدث. تحدث بخيبة عن الأموال العربية التي تصرف على الرقص والطائرات واليخوت. عن الشبان الذين هربوا من الظلم والكبت. عن الوطن العربي الكبير الذي صغر، وعن الأخوة الذين يتقاتلون في الخفاء. تحدّث وكأن حزمة من الذكريات نبتت على عجل عن الوطن العربي الذي يحكمه مجانين يملكون الأموال والتحكم بالرقابquot;.
لا أظنه كان يقصد القذافي بالجملة الأخيرة؛ وهنا أضع نقطة على السطر فيما يتعلق بالراحل العقّاد، رغم أنها قصة مثيرة ومليئة بالحكايا عن الفن والزعامة، وأبدأ سطراً عن معمّر، الطفل الذي حمل نظارة عمر المختار ليكمل مسيرة الجهاد، أو هكذا خيّل له، والشاب الذي ورث عن عبد الناصر عالم العرب، أو هكذا صوّر له.
وفي الحالتين والمثالين والصورتين، فقد ظلمنا الرجل، وظلم نفسه، وتحمّل بأكثر مما تحتمله قدرته الإنسانية، وتجربته العملية، نظراً لأنه لم يكن مثلهما في الرأي، والرؤية، والتروي، والروية، وما سواها من كلمات الحكمة في قاموسنا المشرقي الكبير.
إن التعامل مع معمّر القذافي على أنه مجرم لا أقل ولا أكثر، أمر مجحف في حق التاريخ. والتعامل معه على أنه مناضل لا أكثر ولا أقل، أمر مجحف للإنسانية. الحكم عليه صعب مثل البحث عن حقيقته النفسية والعقلية، إلا أن المؤكد أنه ليس مجنوناً كما يقول الأعداء، ولا عبقرياً كما يقول الأصدقاء، بل هو خلطة الجنون والعبقرية، التي كونت تمثالاً بشرياً عجيباً بنوايا طيبة، وتصرفات إجرامية، حتى لأقرب المقربين إليه.
متابعة خطابات العقيد الأخيرة تشير إلى أنه رجل لا يعرف ماذا يحدث في المنطقة والعالم. رجل يظن أنه سينجو من عربة التاريخ التي تسير باتجاهه بكل سرعتها، بغية إنهاء عقود من المغامرات، وتغييب شعب كبير عن الحياة. لم يكن يعرف أن ما يحدث في ليبيا كان عملاً ضد الحضارة والتاريخ. أمسك معمّر بكل شيء حتى وجد رفاق الثورة أنفسهم يزاحون إلى هامش الصورة، لصالح أبناءه الذين لم يثبتوا صلاحيتهم في أي مهمة أسندت إليهم. وتحولت ليبيا إلى بيت الزعيم وآله وصحبه لا أكثر.
مشكلة معمّر هي أنه أعتقد أنه الوريث الوحيد للقومية العربية، وبالتالي العالم العربي، وأن لديه شرعية خلافة المجاهد الثائر -بالعودة إلى قصة النظارة - ولديه شرعية وراثة زعامة العرب - بالعودة إلى قصة عبد الناصر- وفي الحالتين توقع أن العرب مجبرون على السماح له باللعب على المسرح، حتى يمل ويتعب، وأنهم سيسامحونه على أخطاءه لأن أهدافه نبيلة، وأمنياته أصيلة.
كان الراحل الأكبر، غازي القصيبي، يقول بأن معمر يمكن أن يكون شخصاً عظيماً يوما ما، وهيكل يقول بأنه مهر عربي لم يستطع أن يتجاوز مرحلة الصحراء، وبراءتها، بينما يرى آخرون بأن أفكاره منطقية، وخطاباته، التي تكون دوما فاكهة مسرّات العالمين، به لمحات من الحقيقة والواقع.
وبالفعل، ربما أسأنا فهم معمّر، ولم نعرف أننا أمام رجل حسن النوايا، ذو أفكار خلاّقة، لكنه مريض نفسي لسبب أو آخر. وأن طائفة من الانتهازيين العرب، وما أكثرهم، حولت هذا الشاب البريء، الذي فقد والده الروحي، ورقيبه، وحاميه، جمال عبد الناصر، إلى رجل يعتقد أنه نبي جديد لهذه الأمة، ولو استلزم ذلك، فرض هذه النبوة بقوة السلاح، والمال، والترهيب.
إننا لسنا أمام مجرم، بل أمام رجل لو توفر له علاج نفسي جيد، لكان أملاً جديداً لبلاده، ولمنطقته، وللمستقبل.

[email protected]