إن كان لأولياء الأمور دورهم في تربية وتنشئة فلذات أكبادهم وقلوبهم، فالمعلم هو نبع ذلك الدور، بما اغترفوه من علمه وتوجبهاته ليستقبلوا الحياة العملية. وإنْ كان الطبيب مصدر الرحمة، فالمعلم هو مصدر الحكمة، وكلا المصدرين يبشران بسُبُل الخير لبني البشر. الأول بالرحمة النفسية والجسدية للعليل، والثاني بالحكمة الأدبية والعلمية لمواكبة الدليل، ذلك الدليل الذي هو بمثابة منبع إلهام للقرطاس والقلم، للتعبيرعن هاجس أحاسيس الألم وعن هاجس أفراح النِعم، وعن كل ما ينبغيه التدوين من الخواطر والوقائع والأحداث في كافة حقول العلم والمعرفة، رغم التطور التقني الذي يَسّرَ السُبُل أمام من هم في حاجة للإثراء اللغوي والمعرفي المباشر في كافة مجالات الحياة التثقيفية الشاملة.
ميخائيل ممو |
فيما إذا توغلنا قليلاً في عمق التاريخ القديم، إنطلاقاً من مرحلة ما قبل التاريخ لوجدنا بأن التعليم ينحصر في مرحلتين هما ما قبل الكتابة الرمزية أي الصورية وما بعد إقرار التدوين الرسمي. في الحالة الأولى تم اعتماد التعليم والتوجيه والإرشاد الشفوي من خلال الممارسات المعرفية بمستلزمات الحياة آنذاك، وبمرور الزمن ومن منطلق حكمة الإنسان وولعه في الإبتكار تهيأت له أسس الكتابة المُعتمَدة التي كان مؤداها توسع آفاق التعليم، ليعم دويها في أرجاء متفاوتة من العالم إبتداءً مما احتوته ألواح ملحمة كلكامش في جنوب بلاد الرافدين وما ناظرها في العهد الفرعوني بالكتابة الهيروغليفية، إمتداداً للعهد الإغريقي من خلال ملحمتي الإلياذة وأوديسا لهوميروس تواصلاً مع ما ذهبَ اليه سقراط وافلاطون وأرسطو بإنتشار أشعة شمس فلسفتهم وتعاليمهم على العالم أجمع من خلال النقل والترجمة، إضافة لملاحم تعليمية أخرى المتمثلة بالميثولوجيا أي مجموعة الأساطير في الهند والصين وغيرها من بلدان العالم القديم التي اعتمدت البحث عن المجهول من أسرار الكون والخليقة.
وهنا يجب أن لا ننسى ما دونه الأشوريون والبابليون ما له صلة مباشرة بالعملية التعليمية والتربوية والقانونية على ضوء ما تسجله وتشهد له تلك الرُقم والألواح الطينية التي عثر عليها في بطون أرض الرافدين متمثلة بتعليم القراءة والكتابة والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم، لتصبح تلك الآثار القيمة حبيسة المتاحف العالمية ومنها بشكل خاص في المتحف البريطاني بفضل ما جمعه مؤسس أول مكتبة عالمية الملك الآشوري آشور بانيبال.
إن مدعاة هذه التقدمة هو مَقـدَم quot; يوم المعلم العالمي quot; الذي يصادف في الخامس من اكتوبر/ تشرين أول من كل عام، والذي تم تسميته وإدراجه هذا العام تحت شعار quot; إتخاذ موقف للمعلمين quot;.
ولكي يكون القارئ على بينة من هذه المناسبة في حياة المجتمعات، لا بد لنا من الإشارة عن الدوافع التي حتمت منظمة اليونسكو الإتفاق على إقرار التوصية عن ذلك اليوم منذ عام 1966 تثميناً لمواقف المعلم، وليكون ذلك اليوم رمزاً عالمياً حياً لوعي ومآثر المعلم بما يقدمه وينجزه في عمله من تثقيف وتطوير. ولكي تتخذ تلك التوصية طابعها الرسمي تم إقرار ذلك منذ عام 1994 إحياءً لذكرى توقيع التوصية المشتركة والمتفق عليها بتنفيذها من قبل منظمة العمل الدولية ومنظمة الإمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة أي اليونسكو لتخص وتشمل واقع وأوضاع رجال التربية من المعلمين، إسوة بيوم اللغة الأم المصادف 21 شباط من كل عام ويوم الكتاب العالمي 23 نيسان وغيرها من المناسبات المعتمدة في دول العالم.
إن هذه الإلتفاتة الجليلة هي بمثابة شهادة تقييم وتثمين لدور بناة الأجيال من العمل النبيل في تنشئتهم للحياة المستقبلية، وذلك بغية الشد من عزمهم على مضاعفة الجهد في تولي مهام رسالتهم الإنسانية على نشر الوعي، وما يتحسسون به في دعم وإسناد من هم بحاجة التنوير من التلامذة، وفي الوقت ذاته في الإقدام على تطوير العملية التربوية من منطلق ما يتوصل اليه الباحثون والمعنيون في مجال العلم والمعرفة، وكذلك بث روح الهمة والنشاط في ممارسات المؤسسات النقابية للمعلمين للدفاع عن حقوقهم لتحقيق الأهداف التربوية والتعليمية لتتماشى مع إنجازات العصر الحديث.
من خلال مطالعاتي تبين بأن منظمة اليونسكو توصلت لبعض الحقائق التي تهم التربية والتعليم لتحقيق المساواة بين الجنسين من المعلمين، إضافة لمضاعفة الكادر التعليمي الأنثوي على الذكوري ليتم التوازن بين الجنسين، إستكمالاً لمتطلبات إستحداث مليوني وظيفة جديدة في مجال الإحتياجات اللغوية التعليمية لتحقيق وتنفيذ وتعميم عملية التعليم الإبتدائي بحلول عام 2015 من منطلق الواقع الملموس للتقارير والتوصيات المعتمدة التي أبانت وكشفت بأن نسبة الفتيات والنساء في العديد من الدول تشكل معدلات عالية من الأمية ممن لم يلتحقن في مراكز ومدارس التعليم الإساسية. وبما أن منجزات التعليم هي أساس النمو والتطور الحضاري فلا محالة من إعتماد quot; يوم المعلم quot; كمنطلق لمؤشرات جديدة في كافة مراحل الحقول التعليمية والتثقيفية، طالما يشكل المعلم مركز الثقل لتلك المؤشرات، ولطالما تحتفل أكثر من مائة دولة بذلك اليوم رغم احتفاء البعض منها في أيام وأشهر متفاوتة من السنة، منطلقة من بعض الأحداث الوطنية والقومية لتلك البلدان، ومن الدول التي تعتمد اليوم المحدد نذكر البعض منها كروسيا والباكستان والفليبين ولتوانيا وأوكراينا وأذربيجان. آملين في نهاية كلمتنا أن تعِـر المؤسسات الحكومية ذات العلاقة إهتماماً بالغاً بذلك، وأن تأخذ بعين الإعتبار هذا اليوم الهام في حياة الشعوب في أية بقعة من أرض العالم، وبشكل خاص دول العالم الثالث والشعوب التي تناضل من أجل البقاء لتحقيق أهدافها على ضوء الشعار الذي تم طرحه هذا العام من منظمة اليونسكو بدعم مواقف المعلم، لتكن تلك المواقف الإيجابية المحفزة متشعبة في خدمته، والرفع من شأنه ليشعر عن كثب بأهمية مكانته ودوره الفاعل دوماً في خدمة المجتمع، كونه يشكل حجر الأساس في رقي أبناء شعبه في كافة المهن والوظائف التي يتبوأونها بحرصه وكدّه ورعايته على تنشئتهم وإيصالهم للمراحل الختامية من دراستهم. كما وأن أقل ما يمكن تقديمه إقامة المهرجانات الإحتفائية بمكانته من قبل الجهات ذات العلاقة المباشرة، مع تثمين وتقييم دور المبدعين في مجال اختصاصاتهم المنهجية، إضافة لتشجيع الطلبة على المساهمة بما يبدر عنهم من فعاليات وغيرها من المبادرات التي تجعله أكثر حرصاً وأبلغ أثراً وأرفع شأناً.
وفي خاتمة المطاف لا يسعنا بهذه المناسبة إلا أن نتقدم بخالص التهاني وأبهى الأماني للمعلمين بهذا اليوم الموسوم بإسمهم، كما وننقل لك قارئنا العزيزـ البعض من عبارات التبجيل بحق المعلم التي تشهد بفضله والتي منها ما يلي:
* quot; الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم quot;
* quot; المعلم كالشمعة التي تحترق لتضئ الدرب للآخرين quot;
* quot; من علمني حرفاً، صرت له عبداً quot; أي لفضل تعليمه وجميله.
* قُــم لِـلـمُـعَــلِّـمِ وَفِّــه الـتَـبـجــيـلا كـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أعـلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَــلَّ مِنَ الَّذي يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً وعُقولا
سُـبـحــانَـكَ الــلَـهُـمَّ خَـيـر مُـعَـلِّـمٍ عَـلَّـمتَ بِـالقَلَمِ القُرونَ الأولى
* لا تعجبوا إن صحتُ يوماً صيحة ً ووقعتُ ما بين البنوك قتيـــلا
يا مـن يـريـد الانتحــــار وجـدتـه إن المعلم لا يعيش طـــــويلا
* لــولا المعــلـمُ مـا قـرأتُ كـتابـــاً يوماً ولا كتبَ الحروفَ يراعي
فـبـفـضلهِ جـزتُ الـفضاءَ محـلقـاً وبعـلـمهِ شـقّ الظـلامُ شعـاعي
* أقـدّم أسـتـاذي على نـفــسِ والدي وإن نالني من والدي الفضل والشرف
فذاك مربي الروح والروح جوهر وهذا مربي الجـسم والجـسم كالصدف
السويد
[email protected]
التعليقات