إن المشكلة الحقيقية في العراق، بالمعنى الواضح و الصريح للعبارة، تكمن في ظاهرة الأزدواجية و التناقض في الممارسة و الخطاب لدى القوى السياسية العراقية. الأطراف السياسية في هذا البلد و بعد عقد من الزمن لاتزال متمسكة بمصالحها الحزبية و الجهوية، أو الطائفية و القومية، بينما تدعي، على مستوى الخطاب و الدعاية السياسية، بأنها ملتزمة بمصالح البلاد و العباد و تعمل من أجل مايخدم الوطن و متمسكة بخيار الحوار الوطني و الجلوس على طاولة المفاوضات!

أغلب القوى السياسية في العراق لايتحركون وفقاً لما يمليه عليهم الدستور، أو المسؤوليات التاريخية تجاه الشعب و تحديات المرحلة الإنتقالية التي يمر بها البلد بينما يتحدثون عن مرجعية الدستور لحل المشاكل و الخلافات السياسية، أو يلقون اللوم على الدستور نفسه و إعتباره دستوراً غير صالحاً لواقع اليوم فضلاً عن تلاعبهم بالألفاض السياسية، بوعي أو دونه، للتهرب من المسؤوليات و ألقاءها على البعض.

أغلب الأحزاب الموجودة في الساحة السياسية، نجدهم، و أمام أعيننا !، ينتهجون سياسة الإستقواء بالخارج و التشبث بأجندات أقليمية في صراعاتهم و مواجهتهم لبعضهم البعض بينما لا يخجلون، يدَّعون أنهم ضد التدخلات الأجنبية و الإملائات الخارجية. أغلبهم يقر بأن الحوار الوطني هو الحل و الفيصل للخروج من الأزمات و الخلافات بينما لا نلمس من بين هذه القوى من يتنازل عن شروطه و أجنداته الخاصة حينما تُطّلَق الدعوات للقبول بالدخول في الحوار و التفاوض.

عدالت عبدالله

كل من يراقب الحالة العراقية، يلاحظ أن لعبة الأقصاء و التهميش، أو التقليل من شأن الآخر و أستبعادة، أو روح الشك و الحذر، هي على الدوام سيد المواقف عند أغلب الأطراف في العملية السياسية، و نعي كلنا أن هذه الحالة أدت الى أغتيال روح المبادرات و إطلاق أي مشاريع حقيقية بإتجاه الإصلاح و ترميم الثقة و أستقطاب العمل من أجل لم الشمل و الخروج من حالة التشتت السياسي الذي يسود البلاد. فإنعدام الثقة بين القوى العراقية و فراغ الإنفتاح الوطني بوجه بعضهم البعض نتيجةً لعدم الإلتزام بالإتفاقيات السابقة و الإيفاء بالوعود المكتوبة، بات اليوم هو الذي يتحكم بالقرارات و يُسَيّر المواقف السياسية، و هذا من دون أدنى شك، من بين أخطر المواقف التي تجهض، عادةً، الجهود المخلصة و أية رغبة في أبداء التعاون و التلاحم أو التفاوض و التحاور بين أبناء البلد الواحد.

كما أن اليوم، و خاصة في ظل هذه الأجواء المتوترة، التي تشهد مقاطعات سياسية للبعض و ظاهرة توجيه التهم ضد البعض، في كل ما آل اليه العراق، نلاحظ أنه من غير الممكن إطلاقاً المراهنة على الدستور فقط لحلحلة المشاكل في العراق، فالدستور، في نظر بعض القوى السياسية الفاعلة التي هي من أطراف النزاع، يعتبر غير ذي جدوى للرجوع اليه و الأخذ به كمرجع من مراجع التسوية و المعالجة، حيث يُشار و بكل صراحة الى أنه مليء بالإشكاليات إضافة الى وجود إختلاف في التفسيرات و التأويلات بشأن بعض من مواده و بنوده و فقراته.

من جانب آخر، أثبتت لنا التجارب أن مبدأ التوافق، الذي تم أختباره على أرض الواقع، لم يحل الخلافات بين الأطراف السياسية و لا عالج إشكالية الشراكة في السلطة و الدولة، و لا الدعوة الى مبدأ الأغلبية و الأقلية، الذي هو مبدأ آخر لبناء الحكم الديمقراطي، والذي يطالب به بعض القوى، لاسيما القوى الشيعية، هو الآخر، سيكون حلا مرضياً للمشاكل و الكفيل بإرساء الإستقرار في البلاد طالما عاش البلد في ظل ثقافة سياسية سلطوية و إحتكارية/سياسية مُستبعدة للآخر و مُقصية لحقوقه و وجوده، عنيت هنا الثقافة التي مازالت، للأسف، تحت رحمة الآيديولوجيات الشمولية و العنصرية و الفاشية، و التي ساهم البعث (1968-2003م) كثيراً في زرعها في البلاد و في بواطن العقول السياسية و النُخَب التي تشتغل في حقل السياسة.

لا مراء من أننا علينا اليوم أن نعترف بكل هذه الحقائق و نتعاطى معها بلغة نقدية، و أن نفهم بأن المخاطر البنيوية التي تهدد العملية السياسية في العراق، هي، قبل كل شيء، تتمثل في، أولاً: غياب منظور ديمقراطي مُنفتح لكيفية ممارسة السلطة و عدم أقصاء الشركاء السياسيين، ثانياً: سيادة عقلية إطلاق الإتهامات المتبادلة بين الأطراف السياسية و إستمرار التشبث بالتراشقات الإعلامية و الخطاب الإعلامي و السياسي المتحزب و المتشنج. ثالثاً: فراغ موقف وطني موحد من مصادر الإرهاب و العنف و القتل، التي هي مصادر مختلفة، تقف وراءها قوى خارجية و داخلية في آن واحد، رابعاً: طغيان النزعات الطائفية و القومية لدرجة غزوها للحقل السياسي و تحكمها بالقرارات و المواقف السياسية عند أغلب الأحزاب العراقية. خامساً: مشكلة الأنفراد بالسلطة عملياً و إحتكار تلك المواقع الرئيسية للدولة، التي لا يمكن أن تُدار إلا بالشراكة و مشاركة القوى الفائزة بالإنتخابات و إحترام إرادة الشعب في إختيارهم كممثلين سياسيين في العملية السياسية، هذا و مخاطر أخرى جمة لا حول للعراقيين في تجنبها في النهاية و لا قوة إلا إذا أرادت نُخَبهم السياسية تجنيبنا منها.

bull;كاتب و محلل سياسي ndash; كردستان العراق